دفع تفشى وانتشار فيروس كوروناــ19 إلى تداعيات واسعة على الدبلوماسية. ودفعت الإغلاقات الواسعة فى أغلب دول العالم لشهور، وامتدادها أكثر من عام فى بعض الحالات، إضافة لتوقف السفر الدولى، إلى فرض واقع جديد تغيرت معه طبيعة وقواعد العمل الدبلوماسى.
ولم تخل أحاديث على هامش موائد رمضانية جمعتنى ببعض الدبلوماسيات والدبلوماسيين المصريين والعرب فى العاصمة الأمريكية خلال الأيام الماضية، من التطرق لطبيعة وعمق التغيرات التى طرأت على مهامهم الوظيفية.
واشتكت دبلوماسية عربية، وصلت لواشنطن فى بداية الصيف الماضى للعمل ضمن فريق دولتها الدبلوماسى فى العاصمة الأمريكية، من عدم ذهابها بعد لوزارة الخارجية الأمريكية، وخشيتها من «ضياع عام كامل فى واشنطن دون لقاء مسئولين أمريكيين أو حتى حضور فعاليات مراكز الأبحاث المختلفة التى كانت جزءا لا يتجزأ من عمل زملائها ممن سبق لهم العمل فى واشنطن». كما قلل سفير مصرى سابق من أهمية اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الافتراضية التى جرت عام 2020 ويتوقع كذلك لعام 2021 أن تكون افتراضية أيضا، واعتبرها عديمة الفائدة؛ حيث يرى أن الأهمية الحقيقية كانت تتبع من الاجتماعات الثنائية التى تعقد على هامش اجتماعات قمة الجمعية العامة بين زعماء الدول المشاركين فيها.
ودفع ذلك لتخصص مجلة الإيكونوميست The Economist، المجلة الأسبوعية الأشهر والأهم فى العالم، موضوعا طويلا حللت فيه التغيرات التى طرأت على العمل الدبلوماسى، وطالبت وزارات الخارجية حول العالم الاستفادة مما جرى، وتحويل الواقع الجديد إلى فرص تعضد من قيمة وطريقة القيام بالدبلوماسية لتناسب القرن الحادى والعشرين.
***
أشارت الإيكونوميست إلى اضطرار قادة دول قمة العشرين إلى عقد قمتهم الأخيرة، والتى كان مقررا لها مدينة الظهران فى المملكة العربية السعودية العام الماضى إلى عقد القمة افتراضيا عن طريق تكنولوجيا الفيديو كونفرانس. كذلك استضاف الرئيس الأمريكى جو بايدن قمة للمناخ دعا فيها 40 من قادة دول حول العالم للمشاركة إلكترونيا فى قمة لم يغادر فيها بايدن مكتبه البيضاوى بالبيت الأبيض. وظهر القادة الأربعون المشاركون على شاشة واحدة شغل كل منهم مربعا صغيرا. واعتبر نيكولاس بيرنز، السفير السابق، والأستاذ حاليا بجامعة هارفارد أن «الدبلوماسية لم تتوقف، بل إنها تسارعت فى بعض النواحى، فقد تم الاتفاق على تمرير القرارات، وفى بعض النواحى، ربما لم يكن الدبلوماسيون أكثر انشغالا مما هم عليه الآن».
ودفع فيروس كوفيدــ19 إلى استبعاد حفلات الاستقبال وغيرها من أشكال الترفيه الوظيفى التى اعتاد عليها الدبلوماسيون والدبلوماسيات حول العالم واضطروا إلى التكيف مع الواقع الجديد. واعتبر بعض الدبلوماسيات والدبلوماسيين أن التكنولوجيا أفادت العمل الدبلوماسى ودفعت لاستغلال إمكانيات جديدة وتصورات جديدة. يقول مارتن غريفيث، المبعوث الأممى لليمن، «نحن الآن أفضل حالا بكثير بسبب التعاون، من حيث الدبلوماسية والوساطة، لأننا اضطررنا إلى التفكير بعناية أكبر فى كيفية القيام بعملنا، إنه تغيير زلزالى كبير فى الطريقة التى ننجز بها أعمالنا».
وعلى مدار العقود الأخيرة دفعت التطورات التكنولوجية المتلاحقة، وتوافر وسائل التواصل المباشر بين عواصم الدول ومقار الحكم فيها، إلى لا مركزية أوسع فى العمل الدبلوماسى قلت فيه أهمية البعثات الدبلوماسية المتواجدة فى عواصم ومدن العالم.
وأدت سهولة السفر الجوى بين الدول وانتشار استخدام البريد الإلكترونى ووسائل التواصل الاجتماعى من تسريع الأمور.
***
ودفع انتشار وتفشى فيروس كوفيدــ 19 إلى تغيير الممارسات الدبلوماسية بثلاث طرق مهمة:
أولا، عجلت باعتماد الأدوات التكنولوجية خاصة الفيديو كونفرانس ووسائل الاتصال المباشر الأخرى على نطاق أوسع. ومن المتوقع أن ينمو استثمار الخدمات الأجنبية فى تكنولوجيا الفيديو الآمنة.
ثانيا: تحسين العمل الدبلوماسى وزيادة فعاليته، فقد أصبح التفاعل أسهل كثيرا وأبسط مع أطراف وجهات فى جميع أنحاء العالم.
وتستشهد الإيكونوميست بروزمارى ديكارلو، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشئون السياسية التى ترى أنها «تمكنت من التواصل مع المزيد من الناس لأننى لست باستمرار فى مطار أو سفر، وبفضل تطبيق زووم وغيره، أصبح من الممكن للدبلوماسيين والقادة السياسيين أن يحضروا الخطب والاجتماعات التى كان من شبه المؤكد أنهم لم يكونوا ليحضروها لو كان وجودهم الشخصى مطلوبا». على سبيل المثال، ربما لم يكن من السهل لـ 12 رئيسا، ورئيس وزراء، ووزير خارجية، السفر جوا إلى نيويورك فى فبراير الماضى لمناقشة توفير اللقاح على الصعيد العالمى، لكنهم شاركوا جميعا فى اجتماع افتراضى لمجلس الأمن بشأن هذا الموضوع.
وتقليديا يستغرق الأمر شهورا من التخطيط لتجميع أطراف مختلفة فى قمة ما أو فعاليات مختلفة سواء مفاوضات سلام أو نقاشات حول قضايا التجارة العالمية على سبيل المثال، ويمكنك الآن وسريعا جمع قادة دول معا على شاشة الفيديو بسهولة نسبية.
كما أن الاجتماعات الافتراضية قطعت الكثير من الإجراءات الشكلية والدبلوماسية التقليدية واللوجيسيتة، وأصبح الكثير من المسئولات والمسئولين الدوليين يرون أنهم أقل احتياجا إلى السفر آلاف الكيلو مترات من أجل اجتماع واحد أو إيصال رسالة محددة، ونتيجة للتكنولوجيا، يمكنهم الآن تحقيق نفس النتيجة بشكل أسرع وتكلفة أقل.
ثالثا: ربما عجل انتشار وتفشى فيروس كوفيدــ19 لتشمل اجتماعات ومباحثات المستقبل طائفة أوسع من الأصوات والفئات التى لم يمكن دعوتها فى السابق للمشاركة فى جهود حل الصراعات وإحلال السلام. وسمحت البساطة اللوجستية كما ذكرت الإيكونوميست لحلحلة الأزمة فى ليبيا بعدما شارك ليبيون منهم نساء وشباب وشيوخ من مختلف أنحاء ليبيا وأُستمع إلى آرائهم فى طرق الحل إلكترونيا، وهو ما لم يكن متاحا من قبل لصعوبات السفر والتأمين والانتقال.. إلخ.
***
ولكن حتى المتحمسات والمتحمسون للإمكانيات الجديدة للدبلوماسية الرقمية يدركون تماما حدودها. ومن المؤكد أن التواصل الشخصى له بعض المميزات، لكن لا ينبغى أن يقاوم دبلوماسيو ودبلوماسيات الماضى آليات وأدوات دبلوماسية الغد.
لن ينتهى دور السفير أو السفيرة والدبلوماسيات والدبلوماسيين المقيمين فى عواصم ومدن الدول الأخرى على الرغم من سهولة الاتصال الإلكترونى المباشر بين الحكومات. ويصر الدبلوماسيون والدبلوماسيات على أنه لا يوجد حتى الآن بديل عن تواجدهم فى العاصمة الأجنبية، من هنا علينا إقناعهم أولا بأن العودة البسيطة إلى الدبلوماسية كما عرفوها قبل الوباء لن يحدث، وعليهم الاستعداد لنموذج دبلوماسى مهجن، لم ينهِ دورهم الشخصى، لكن لن يتمكنوا من إنجاز مهامهم دون حتمية اكتساب مهارات حديثة تبدأ من التدريب على الاجتماعات الافتراضية، ومهارات تكنولوجية اعتبرها البعض رفاهية لا ضرورة لها قبل 2020.
وعلى الخارجية المصرية الاستثمار سريعا فى دبلوماسييها تكنولوجيا، والاستعانة بشركات التقنية المصرية والأجنبية لتدريب كوادرها على مهارات القرن الـ 21 من دبلوماسية الهجين الرقمى والشخصى، والتى لا يمكن النجاح دون فهمها وتطبيقها.