نشرت جريدة هسبريس المغربية الالكترونية مقالًا للكاتب عثمان الريسونى يقول فيه: فى إثبات عدم فشل الثورات العربية، سادت لمرحلة طويلة نظرية يوجهها التفاؤل إلى اليأس؛ فقد قيل إنّ الفصل النهائيّ للصراعات والتناقضات يستغرق دوما زمنا طويلا، قبل أن يُكتب الانتصار وتنتهى الأمور إلى الخلاص. ولهذا السبب، كان يستدل بالثورات الأوروبية، وبالخصوص الثورة الفرنسية فى 1789 وثورات 1848. للأسف، ليست الحال على هذا النحو؛ فقد غاب ولا يزال عن هذا التحليل، الطيب النوايا، أنّ الثورات الأوروبيّة حدثت ضمن عمليّة صعود شملت كلّ شيء: من المجتمع والدولة والاقتصاد إلى الثقافة والقيم والفكر، وبالتالى كان العنف الذى ولدته والزمن الذى لزمه انتصارها، أو انكسارها، أقرب إلى أزمات التطور قياسا بمظاهر التحلل التى أبانت عنها الثورات العربيّة المضادّة بعد فشل الثورات.
لكنّ ما يمكن اعتباره مصيبة لدينا أنّ ما ظهر ويظهر، ممّا فجره انكسار الثورات، أعظم كثيرا من أن يختصر فى ذلك؛ فهو يتعدى كونه تعبيرا عن فشل التغيير وظفَر الفساد، إلى اعتباره إحباطا لكلّ شيء وفى كلّ شيء. فكأنّنا، والوضع هذا، قضينا عشرات السنين ونحن نراوغ ونتجاهل ونتملص بحيث تراكمت الفواتير التى ظننا أنّنا نجحنا فى تجنبها، وبات علينا لمرة واحدة أن نسدد هذه الفواتير المتكدسة جميعا فيما نحن لا نملك شيئا.
فنجاح الثورة المضادّة سبب كافٍ لأن يفتح الباب على الدمار؛ لكنّه وحده غير كاف لأن يفسّر مدى الامتداد الذى يشمله هذا الدمار العابر للحدود الوطنية، والمرفوق بعمق العنف الجارى، إضافة إلى انعدام الحلول وانسداد الآفاق. ومن غير أن تكون الأوضاع الليبيّة أسوأ الأوضاع، تظل بين أكثر النماذج سطوعا فى الدلالة على تشابك الثورة والاختراقات الخارجيّة والحرب الأهليّة، فضلا عن وضوح تعبيريّ و«دستورى» فى التدليل على التمزق الظاهر.
والأمر، فى مجمله، ليس ضعفا فى «الحضارة العربيّة» أو «الإسلاميّة»«، إذ لا يؤكد مصطلح عام كهذا أمرا مفيدا ومحدّدا يتعلق بحقبة معينة. مع ذلك يظل مدهشا المجال الجيولوجيّ لما يحدث. فكيف بالإمكان أن يتزامن فى منطقة معينة، وفى المرحلة الزمنيّة نفسها، انهيار دول بكاملها، وانهيار شعوب تهاجر أوطانها بالآلاف المؤلّفة؟ وكيف يعقل أن يتزامن سقوط الأفكار والطوائف والعرقيات والتنظيمات والإيديولوجيّات كأنّها قصور من رمل، وننتهى من دون أيّ جواب عن أيّ من الأسئلة العديدة؟ وكيف تصبح تدخّلات الدول المجاورة سببا آخر للتناحر، إذ هذه الدول المتدخّلة تعانى هى نفسها من العاهات العميقة إيّاها التى تعانى منها الدول المتناحرة، محاولةً تفادى انفجارها من خلال تدخّلها؟ وكيف يتزامن فى خلفيّة هذه الأحداث الملحميّة العاصفة بنا، وعلى اتساع المنطقة، بلوغ «مستوياتنا» ما يقارب الصفر فى الحقوق والحرّيّات وتوسيع مصادر القرار، وفى التنمية والعدالة الاجتماعيّة، وفى الإصلاحات الدينيّة والثقافية كما فى أوضاع المرأة؟.
إذا كان لبيان حسابيّ كهذا أن يقول شيئا فهو يقول إنّ الشجاعة الكبيرة التى أظهرتها شعوب الثورات العربيّة لا تكفى لوحدها لتجاوز هذا المركّب المعقّد والمتنوع من الانهيارات المسبوقة بانكسارات كامنة، وأنّ ما قد يكون ضروريا بشدة، نظرة جديدة إلى الذات، وتقييم جديد لتاريخها الحديث بجانبه المتلقّى للاضطهاد وجانبه المنتج له، من وعيها التاريخيّ لنظام القرابة العصبى إلى امتداداته الإمبراطوريّة، العربيّة والإسلاميّة، ومن إدراك السياسة وضرورة الحرّيّة والحاجة للدولة والعلاقة بالآخر إلى الوعى بأهميّة الفرد وتأسيس الموقف الأخلاقيّ على هذا الوعى، ومن التنبه إلى العالم وعضويّتنا فيه، إلى التنبه إلى مسئوليّتنا اتجاهه التى تقابل مسئوليّته تجاهنا.
وإذا أمكن انتقاد الخارج وتقاعسه وأنانيّته، وهو جائز طبعا، تقدّم هذا الانتقاد على خط موازٍ لقيامنا نحن أيضا بواجباتنا اتجاه أنفسنا، قبل أن تكون اتجاه العالم؛ ذاك أنّ اتّهامه بالتقاعس عن مساعدتنا لا يعنى شيئا إلاّ بالتناسب مع مساعدة أنفسَنا فى ظلّ وعى كونى للعالم يماثل دعواتنا له بأن يفهمنا. فإذا أهملنا مسئوليّتنا وسألناه عن مسئوليّته، كنّا كمن يسأل الإحسان أو يبغى الإعالة، والعالم ليس محسنا ولا معيلا.