تتبيلة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تتبيلة

نشر فى : الخميس 6 يوليه 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الخميس 6 يوليه 2023 - 8:35 م

أخذ البحث حول أفضل مكان لقضاء إجازة الكريسماس وقتًا طويلًا من السيدة آن قبل أن تستقّر في النهاية على اختيار مصر وجهةً لها، وهنا كان أمام آن عرضان مختلفان. العرض الأول هو الذي قدّمته لها شركة السياحة بسعرٍ مغرٍ للسفر مباشرةً إلى الغردقة حيث تستطيع أن تمارس السباحة ورياضة الغطس في جو دافئ أين منه جو كندا، أجارك الله من كندا وصقيع كندا. والعرض الثاني كانت قد تلَقّته من السيدة نهى أثناء زيارة ابنتها المقيمة في تورونتو عندما اقترحَت عليها أن تستضيفها في ڤيلتها بكومباوند بالم هيلز بالشيخ زايد وشرَحَت لها المثَل المصري الذي يقول إن عزومتها ليست عزومة مراكبية، كما أكدّت لها أن الڤيلا صارت واسعة عليها منذ هاجرت ابنتها لكندا. وبعد تفكير عميق قرَرَت آن الجمع بين الحسنيين معًا، بمعنى أن تحجز رحلتها لمصر بحيث تنزل أولًا في الغردقة لثلاثة أيام ثم تثّني بمثلهم في القاهرة في ضيافة نهى، فلم يكن معقولًا أن تقطع اثنتي عشرة ساعة من الطيران المرهق وهي محشورة في مقعد الطائرة الضيّق ثم لا ترى الأهرام و"أبو الهول" ولا تزور متحف الحضارة الذي أبهرها بموكبه التاريخي المذهل.
• • •
كانت الغردقة كما قرأَت عنها آن تمامًا مدينة كوزموبوليتانية بالمعنى الحرفي للكلمة ففيها العديد من الأسر الألمانية والروسية والإيطالية التي اختارت الغردقة مكانًا للتقاعد وقضاء آخر سنوات العُمر، وربما الأدَق القول أحلى سنوات العُمر. الأشياء التي تبدو لنا شديدة البساطة كانت قادرة على خطف نظر آن وإثارة اهتمامها بلا مدى، يكفيها أنها مارسَت متعة المشي حافية القدمين على رمال شواطئنا الناعمة، ولا مجال لمقارنة ذلك بالسير الحذر فوق الحصى الذي يفترش الشواطئ الكندية، دع عنك لون البحر الأحمر وشُعبه المرجانية ورياضاته التي تخطف العقل. مرّت الأيام الثلاثة بسرعة البرق وبدأَت فكرة التقاعد في الغردقة تراود آن وتروح وتجئ، من حين لآخر، لكن الوقت مازال مبكرّا جدًا على اتخاذ قرار مصيري من هذا النوع، فالسيدة الكندية لا زالت في مطلع الخمسينيات والتقاعد لا يتقيّد بسّن الستيّن خصوصًا لامرأة في كفاءتها تعمل لدنياها كأنها تعيش أبدًا. اصطحبَتها نهى من مطار القاهرة وتوجهتا رأسًا إلى الشيخ زايد، طبعًا في الطريق كان هناك زحام وفوضى وأعصاب مشدودة كأسنان الرمح، لكن في النهاية وصلت المرأتان إلى الـbubble المنشود وأطلقَتا لحريتهما العنان. تلبسان كما تشاءان، وتسيران في شوارع الكومباوند على هواهما، وتأكلان أكلات تبدو خارج سياق المكان.
• • •
مع نهى انتقلَت آن من الإفطار الكونتنتال غير المُشبع في فندق الغردقة إلى إفطار مصري صميم، فول وطعمية وباذنجان مقلي وبطاطس محمّرة مع خبز بلدي، سعر الرغيف الواحد عشرة جنيهات كاملة من باب كرم الضيافة. شعرَت نهى وكأنها سفيرة لبلدها وتصرّفت على هذا الأساس، أخذَت على عاتقها مهمة الترويج للسياحة في موطن حضارة السبعة آلاف عام، ولو مع آن واحدة فقط لا غير. مرّت الضيفة الكندية بالتطوّر الطبيعي الذي يمّر به كثير من الأجانب عندما يتعاملون مع الطعام المصري لأول مرة، فانتقلَت من الفضول إلى الحذر إلى التذوّق إلى الإدمان. وبعد أن امتصّت صدمة كومبو الإفطار بسلام ولم يصبها سوء بلطفٍ من الله، انتقلَت إلى الغداء وأطباقه الملغّمة بالسُعرات ومنغصّات القولون، وبدأَت تسأل أكثر عن الوجبات المصرية وطُرُق طهيها ومحسنّات طعمها. فلقد تركَت التوابل والأعشاب مذاقًا طيبًا على لسانها أرادت أن تعرف على وجه الدقة من أين أتى بالضبط. وفي الحقيقة لم تكن نهى جاهزة للإجابة على سؤال مِن أين جاء بالضبط ذلك المذاق اللذيذ الذي استطابته ضيفتها، فقد يكون مصدره البهار أو الحبهان أو الزعفران أو ورق اللوري أو الريحان، أو أي من التوابل والأعشاب الكثيرة التي اعتادت أن تخلط بها كل صنف من أصناف الطعام على حدة، علمًا بأنها تقليدية جدًا في طهيها ولا تقبل بتبادُل محسّنات الطعم بين الأكلات المختلفة، فاللحم لحم والأرز أرز، وكل أكلة لها تتبيلتها. تسللّت آن إلى المطبخ أثناء إعداد مضيّفتها طعام الغداء وكان عبارة عن ملوخية خضراء بالدجاج، وحمدًا لله الذي يسّر لنا تناوُل الملوخية الخضراء في كل فصول العام. ومع أن نهى لا تشهق عادةً عند طهي الملوخية، إلا أنها رأت أن تتقن الصنعة فشهقَت على مهلها حتى لا تتسبب في إرعاب ضيفتها، ومع ذلك فإنها ارتعبَت. بلغَت دهشة آن أقصاها مع هذه الحركة المصرية الأصلية وراحت تمطر مضيفتها بأسئلة وجودية لا إجابة لها من نوع: هل توجد علاقة ارتباطية بين هذه الشهقة وطَعم الملوخية؟ وهل بدون هذه الشهقة كانت ستتحلّى الملوخية بنفس المذاق الطيّب؟ تقمصّت نهى شخصية الشيف شربيني كما سبق لها أن تقمصّت شخصية جناب السفيرة وردّت على آن بأي كلام.. أي كلام حرفيًا، فالمنطق لا وجود له في هذا النوع من المواقف.
• • •
مدّت آن إقامتها بالقاهرة أسبوعًا كاملًا بعد أن حملَتها مضيفتها على كفوف الراحة وطافت بها من خان الخليلي للقلعة لمسجد عمرو بن العاص. أخذَتها في رحلة نيلية مصحوبة بصوت أحدث أغاني عمرو دياب الراقصة. جعَلتها تشاهد بدلًا من المتحف الواحد ثلاثة متاحف. وباختصار نقلَت نهى لضيفتها صور المزارات والأماكن السياحية من الألبومات إلى الذاكرة، وغيّرت لها بعض أفكارها المسبقة وجمّلت لها البعض الآخر. اكتشفَت آن أن الجِمال تمشي فعلًا في شوارع القاهرة كما قالوا لها، لكن مشيها عابر ومرورها ليس ظاهرة يومية، وتأكدّت بالفعل من أن القاهرة مدينة لا تنام وأنها عندما راهنَت على انتهاء الضجيج والزحمة بحلول منتصف الليل على أقصى تقدير-كانت مخطئة لكن غير نادمة لأن ليل كندا صامت كصمت القبور. هكذا نجحَت نهى في مهمتها الوطنية العظيمة، بيد أن الشئ الذي جعلها تشعر بفخر لا مزيد عليه فهو عندما راحت تساعد ضيفتها على ترتيب حقيبة السفر وأخذَت ترّص لها توابل الأطعمة المصرية الشهيرة، كل تتبيلة في كيسٍ منفصل، وكل كيس عليه بطاقة تعريفية تخصّه، أما الملابس فكادت أن تختنق .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات