«الصحفيون هم هيئة الدفاع أمام محكمة التاريخ.. هم الوكلاء الطبيعيون عن ضمير الأمم، وهم جند الحق إن أخلصوا».
بهذه الكلمات لخّص شيخ الصحفيين حافظ محمود جوهر مهنة صاحبة الجلالة ودور أبنائها، فالنقيب التاريخى لم يعترف يوما بمعايير «الحياد، والتجرد، والموضوعية» عندما تكون البلاد ترزح تحت نير الاحتلال، فدور الصحفيين هنا لا يقتصر على نقل الأحداث والمعلومات وعرض الآراء دون محاباة، بل النضال بكل ما هو متاح حتى تتحرر بلادهم، فالصحافة كما يراها «أقرب المهن إلى الجهاد الوطنى».
فى مطلع أربعينيات القرن الماضى، لم يكتفِ حافظ محمود بترؤس تحرير جريدة السياسة لسان حال حزب الدستوريين الأحرار، بل انخرط فى جماعات الجهاد الوطنى التى نفذت عمليات فدائية ضد جنود المحتل الإنجليزى.
كان نقيبنا الراحل يؤمن بتلازم المسارين السياسى والعسكرى؛ إذ يراجع ويحرر ويكتب فى الصباح أخبارا وتقارير ومقالات تحرض على مقاومة المحتل حتى تستقل البلاد، ويطارد ليلا ضباط وجنود جيش الاحتلال البريطانى، ويراوغ رصاصهم فى شوارع القاهرة.
من المفارقات التى لا تزال تروى عن حافظ، أنه استغل حفل زفافه لتهريب سلاح عجز رفاقه الفدائيون عن إخراجه من الحى بفعل الحصار الأمنى. وفى إحدى الليالى، طارده جنود الاحتلال وأصابوه برصاصة فى ساقه، لكنه واصل العدو حتى أفلت منهم، ثم تولى زملاؤه علاجه سرا.
لم يكن حافظ محمود استثناءً بين الصحفيين المصريين فى تلك الحقبة؛ إذ جمع العشرات من زملائه بين الكلمة والسلاح دفاعًا عن الوطن، معتبرين أن الصحافة «رسالة وليست تجارة» كما كتب الأستاذ أمين الرافعى، وأنها «وسيلة لحصار المحتل» كما قال الأستاذ أحمد حلمى.
اليوم، وبعد نحو ثمانية عقود، يحاول البعض ــ تحت دعاوى الحياد والاستقلال والموضوعية ــ أن ينزع عن الصحفيين دورهم الوطنى، فيطالبهم بالاكتفاء بنقل الخبر والصورة حتى لو كانت بلادهم تحت احتلال غاشم يقتل شعبهم ويدمر بيوتهم ويجوع أهلهم، وإذا تجاوز الصحفى هذا الدور، فإن دمه يصبح مستباحا، كما حدث قبل أيام مع صحفى الجزيرة أنس الشريف ورفاقه الذين اغتالتهم إسرائيل عن سبق إصرار وترصد.
قتلتهم إسرائيل لأنها أرادت إسكات الشهود ودفن الحقيقة تحت ركام مبانى غزة المدمرة، ثم مضت لتضفى على جريمتها مسحة من «الشرعية» باتهامهم بالانتماء إلى حماس، وهى الكذبة التى يروجها الإعلام العبرى لتبرير استهداف الصحفيين.
الصحفى والمخرج الإسرائيلى يوفال إبراهام كشف، قبل يومين، أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية شكلت بعد عملية «طوفان الأقصى» وحدة خاصة أسمتها «خلية إضفاء الشرعية»، مهمتها جمع معلومات تُستخدم لتبرير قتل الصحفيين فى غزة.
وفى تدوينة على منصة «إكس» أضاف يوفال أن عناصر هذه الخلية كانوا يبحثون عن أى دليل يمكن تسويقه للرأى العام لإظهار الصحفيين كعملاء لحماس، لكنهم غالبًا ما فشلوا فى العثور على شىء.
يوفال، الذى اتهم الصحافة الإسرائيلية بخيانة مهنتها وبأنها طبعت مع القتل الجماعى والتجويع والإبادة، انتقد أيضًا نفاق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى أفيخاى أدرعى، الذى ادعى أن أنس الشريف كان ينتمى إلى حماس، قائلًا: «حتى لو افترضنا صحة ذلك، فلماذا لا نعتبر غالبية الصحفيين الإسرائيليين ــ الذين خدموا فى الجيش أو الاحتياط ــ أهدافًا مشروعة؟».
الصحفى الإسرائيلى جدعون ليفى انضم إلى يوفال منتقدا فى «هاآرتس» صمت الإعلام العبرى على اغتيال الشريف ورفاقه، كما هاجم تبرير جيش بلاده للجريمة، قائلاً: «حتى لو صدق البعض رواية الجيش، فماذا عن بقية الصحفيين الذين قُتلوا معه؟ هل كانوا نواب رئيس الخلية؟»، مؤكدا أن جيشًا يقتل الصحفيين بالجملة ودولة تمنع التغطية الحرة لا يمكن الوثوق بروايتها.
المؤلم أن بعض المنصات الصحفية العربية تبنت الرواية الإسرائيلية وروجت سردية أفيخاى أدرعى، مبررة قتل صحفيى الجزيرة، وكأنها تبث من تل أبيب، فى الوقت الذى خرجت فيه من داخل إسرائيل نفسها أصوات تفضح جيش الاحتلال وحكومة اليمين المتطرف وتدين جرائم الإبادة والتطهير العرقى فى غزة.
عندما يكون وطنك محتلاً، ويُمارس المستعمر أبشع جرائم الحرب ضد شعبك، فإن الحياد يصبح خيانة، ومن ثم فإن حمل الصحفى للسلاح وانضمامه إلى حركة تحرر تؤمن بالمقاومة لا يُعد جريمة، بل هو فرض وواجب، هذا هو الإرث الذى تركه لنا شيخ الصحفيين حافظ محمود قبل ثمانية عقود، وعلى من لا يقبله أن يصمت خيرا له ولنا.