أدب الأوبئة: سرديّات رمزيّة ورسائل تنبّؤيّة - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أدب الأوبئة: سرديّات رمزيّة ورسائل تنبّؤيّة

نشر فى : الخميس 6 أغسطس 2020 - 9:45 م | آخر تحديث : الخميس 6 أغسطس 2020 - 9:45 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «فاطمة واياو» المغربية، تناولت فيه كيف أن العديد من كتّاب أدب الأوبئة يشيرون إلى دلالات سياسية وفنية وإنسانية فى كتاباتهم أكثر من إشارتهم لأحداث الوباء ونتائجه... نعرض منه ما يلى.
قال الفيلسوف اليونانى أبيقور: «Epicurus» «يُمكن للإنسان أن يكونَ فى مأمنٍ من كلّ شىء سوى الوباء، فأمامه يعيش كلّ البشر فى مدينة لا أسوار لها» وهى حقيقة ما زال الكائن البشرى يعيشها إلى اليوم، فمع الأوبئة يتساوى عالَم ما بعد، بعالَم ما قبل فى تاريخ البشريّة.
هل كان سيختلف شعور الناس لو قرأوا مثلا عبارتَى: «النضال المُشترَك هو ما يجعل المجتمع مُمكِنا»، أو «إنّ كُلَّ ما يستطيع الإنسان أنْ يربحه فى معركة الطاعون والحياة هو المَعرفة والتذكُّر»، من الرواية الأكثر شهرة «الطاعون» لألبير كاموAlbert Camus؟ بالتأكيد سيحارون أمام هَول ما يقع من ضحايا كورونا، ونحن فى القرن الحادى والعشرين، أليسَ غياب النضال المُشترَك والتعاوُن الإنسانى وعدم أخذ عِبَرٍ من دروس التاريخ من بين آفات عصرنا الحالى؟
لقد شكّلت رواية «الطاعون» صرخةً وجوديّة فلسفيّة عبَّر فيها الفيلسوف والكاتِب الفرنسى الأصل، الجزائرى النشأة، ألبير كامو، عن عبثيّة الوجود من خلال التخييل الباذخ حدّ الواقع الصادِم. فكما هو معلوم، فإنّ مدينة وهران الجزائريّة لم تُعان الطاعون، حين كتبَ ألبير كامو روايته، هذا المعطى يضعنا أمام حقيقة مهمّة وهى أنّ أدب الكوارث أو الأوبئة كُتِب أغلبه خارج سياق الحادث/ الوباء، أى بعد أو قبل وقوع الكوارث. وهى حقيقة تتجلّى أيضا فى رواية «الإنسان الأخير» The Last Man للكاتبة الإنجليزيّة مارى شيلى Mary Shelly التى شكَّلت أحداثها فكرة استشرافيّة تخييليّة، إنْ لم نقلْ تنبّؤيّة، فالكاتبة أصدرت روايتها سنة 1826 ولكنّها تحكى عن الوباء الذى سيضرب الإمبراطوريّة البريطانيّة كما تخيّلتها مارى شيلى، والذى سينتشر بدايةً من القسطنطينيّة كبؤرة له.
تبدأ أحداث الرواية سنة 2073 وتنتهى سنة 2100. هذه الرواية التى ستلقى وابلا من النقد والسخرية إبّان فترة صدورها، أى قبل أن يصبح أدب الكوارث أدبا مُعترَفا به فى ستّينيّات القرن العشرين. لقد كانت مارى شيلى فى روايتها هذه عرّافة تنبّأت بما نعيشه اليَوم من كوارث وأوبئة، وأيضا ازدياد أعداد اللّاجئين والتغيّرات المناخيّة المُميتة التى شهدتها الحضارة الإنسانيّة فى بداية القرن الحادى والعشرين. إنّها رواية استشرافيّة بامتياز، حيث يُمكن اعتبار مارى شيلى من الكُتّاب الروّاد لما بات يُعرف الآن بأدب الكوارث أو بأدب ما بعد النهايات، بحسب التصنيف الأدبى الإنجليزى. وهى عكس رواية «الطاعون»، حيث إنّ مدينة وهران كان قد ضربها الطاعون فعلا، ولكنْ 100 سنة قبل رواية كامو، وهو أمر يجعل من التكثيف الخيالى مجالا للتعبير الباذخ، ذلك أنّ وقوع الكارثة وانتشار الأوبئة فى التاريخ يُمكن اعتباره فترة جمود وحِصار وحجْر قد لا يَمنح السرد الكثير من ألَقِه وإبداعه وعنفوانه. ولعلّ ألبير كامو أشار إلى هذه الحقيقة فى رمزيّةٍ عميقة من خلال غران Gran أحد أبطال روايته «الطاعون» الذى كان يَعِد بكِتابة قصّة جميلة؛ غير أنّنا نكتشف فى نهاية الرواية أنّها لم تتجاوز العبارة الأولى التى أعاد نسْخها خمسين مرّة من دون أن تكتمل القصّة لتكون تعبيرا عن صعوبة التفكير والإبداع فى زمن لا يستطيع العقل البشرى فيه سوى التفكير فى النجاة لا غير.
فيروس كوفيد ــ 19 أو ما يُعرف بكورونا، ليس الجائحة الوحيدة التى عرفتها البشريّة، وبالتأكيد لن تكون خارج أدب الأوبئة أو ما يُصطلح عليه بأدب الكوارث. فكلّ الأوبئة التى مرّت على بنى البشر وجدت طريقا لتُخلَّد فى إبداعاتٍ أدبيّة وفنيّة، سواء بوصفها أم بالتأريخ لها أو بالتنبّؤ بها. فمع فرْض الحجْر الصحّى على سكّان الأرض من دون استثناء، على الرّغم من بعض الفوارق فى درجة الإغلاق، اتّجهت الأنظار إلى السرديّات التى احتفت بالأوبئة فى التاريخ الإنسانى. ولعلّ المُنقِّب فى المَكتبات العالَميّة لن يعدم أن يجد العديد من الروائع الروائيّة على الخصوص التى جعلت من موضوع الأوبئة مادّة ومحورا للسرد. فمن «أوديب مَلِكا» للكاتب اليونانى سوفوكليس Sophocles، وجيوفانى بوكاتشيو Giovann Boccaccio وروايته «الديكاميرون» The Decameron التى صدرت سنة 1353، ومرورا برواية «القناع الأحمر» The Masque of the Red Death للكاتِب إدغار ألان بو Edgar Allan Poe الصادرة سنة1842، وصولا إلى رواية «عيون الظلام» The Eyes of Darkness الصادرة سنة 1981 التى تنبّأ فيها الروائى الأمريكى دين كونتز Dean Koontz وبشكلٍ غريب، بظهور فيروس من مدينة أوهان الصينيّة، والتى ستعود للواجِهة مع جائحة كورونا، وصولا إلى رواية «العمى» Blindness للكاتِب البرتغالى خوسى ساراماغو José Saramago الصادرة سنة 1995 التى تصوِّر بدَورها انتشار وباء يصيب العيون فى زمانٍ ومكانٍ مُتخيَّلين.
ففى كلّ مرّة تُكتب رواية عن بعض الأوبئة، يكون الزمان فيها فى الغالب استشرافيّا، حيث يتنبّأ الكُتّاب بما سيحدُث فى عالَمٍ مُستقبلى، غير أنّ المُفارَقة هنا أنّه غالبا ما يحدث ذلك بعد عقودٍ من الزمن. فرواية «فراكنشتاين» Frankenstein مثلا، وهى للكاتبة الإنجليزيّة مارى شيلى، تتنبّأ أيضا بفظاعة ما يُمكن أن تقترف اليد البشريّة بالطبيعة، حيث إنّ أحد أبطالها، وهو المسخ أو الوحش، يُمكن أن يكون رمزا لكورونا فى زمننا هذا، إذ يموت هذا المسخ فى نهاية الرواية، ولكنْ بعد أن يكون قد قضى على الكثير من الأحبّاء. أمّا فى الحالات النادرة التى كُتبت فيها الرواية فى زمنٍ قريب من زمن انتشار الوباء، فنكتشف أنّ الأبطال ينتمون إلى جغرافيا تبعد بنِسبٍ مُتفاوِتة عن بؤرة الوباء، وهو الأمر الذى نستشفّه من رواية «الديكاميرون» لجيوفانى بوكاتشيو التى صدرت فى العام 1353، والتى تسرد مائة قصّة داعِرة، ومُضحِكة، وجنسيّة رواها أبطال الرواية على مدى عشرة أيّام خلال حجْرهم الصحّى فى فلورنسا، بينما كان الوباء يتمدّد فى شمال إيطاليا، وهى تقنيّة أراد من خلالها الكاتِب أن يمنح لأبطاله فرصةً للعيش وإلهائهم عمّا يُمكن أن يتسرّب إليهم من فظاعات وأحزان ومَخاوِف.
نقطةُ بدايةٍ لعالَمٍ جديد
إنّ إلقاء نظرة على الأدب الذى احتفى بالأوبئة، وبخاصّة منها وباء الطاعون فى العديد من السرديّات العالَميّة، يقودنا إلى الوقوف عند رمزيّةٍ دلاليّةٍ مهمّة، وهى أنّه فى الكثير من الأحيان يُصبح الطاعون رمزا للفساد السياسى، وهو ما نستشفّه من حكاية الكاتب الفرنسى جان دى لافونتين Jean de La Fontaine المُعنونة بـ«الحيوانات المُصابة بالطاعون animaux malades de la peste Les« الصادرة سنة 1678. وإذا كانت حكايات لافونتين مُستقاة من الآداب القديمة البيزنطيّة والآشوريّة والهنديّة والعربيّة أيضا، فإنّه استطاع مع ذلك أن يُحيّنها ويُلائمها مع عصره واضعا إصبعه على مَكمن الداء السياسى فى رمزيّةٍ تشى بالقمع المُمارَس آنذاك فى أوروبا القديمة، كما أنّه تحدَّث من خلالها عن العديد من الأمراض الاجتماعيّة كالنِّفاق والظلم والمحسوبيّة والرشوة وغيرها من العلل التى كانت تنخر المجتمع الفرنسى آنذاك.
وفى مرحلة تاريخيّة لاحقة، نجد أنّ الكاتِب الفرنسى ألبير كامو استطاع أن يجعل من روايته «الطاعون» رمزا سياسيّا بامتياز؛ فعلى الرّغم من أنّ الرواية تتحدّث عن وباء الطاعون الذى سيضرب مدينة وهران الجزائريّة، إلّا أنّ ألبير كامو كان يرمز إلى تفشّى النازيّة واحتلالها بلده الأصلى فرنسا، والنازيّة كما الطاعون، لن تتحرّر منها فرنسا إلّا بمُساعدة الحلفاء فى الحرب العالَميّة الثانية، وبتضافُر كلّ قوى التحرُّر عبر العالَم من أجل القضاء على الطاعون الذى هو صنو الاحتلال والفساد السياسى.
أمّا الكاتِب الإنجليزى دانييل ديفو Daniel Defoe صاحب مُغامرات Robinson Crusoe الشيّقة، فقد أصدر سنة 1722 رواية «دفتر أحوال عام الطاعون» A journal of the Plague Year وثَّق من خلالها لوباء الطاعون الذى اجتاح لندن فى العام 1665، مُقدِّما تاريخا تفصيليّا، يجعلنا نشعر بالدهشة ولكنْ أيضا بالقشعريرة من تفشّى الوباء، الذى بدأ فى سبتمبر من العام 1664، بشكلٍ شَرسٍ بين سكّان لندن. غير أنّ الكاتِب الكولومبى غابرييل غارسيا ماركيز Gabriel García Márquez فى روايته «الحُبّ فى زمن الكوليرا» El Amor de los Tiempos de Colera الصادرة سنة 1985 استدعى وباء الكوليرا كتيمة تكثيفيّة غير واقعيّة، لا فى الزمان ولا فى المكان، ليُتيح لقصّة الحبّ الأساسيّة أن تَجد طريقها للتشكُّل بعيدا من أنظار الفضوليّين إن صحّ التعبير. ليغدو الوباء هنا حاملا دلالة رمزيّة فنيّة وإنسانيّة أيضا.
يبدو إذن أنّ أدب الأوبئة ليس مرآة مأساويّة لما يُمكن أن يصيب البشريّة أو أصابها من حروب وكوارث طبيعيّة وأوبئة أو جائحات فحسب، بل هو بالأساس نقطة ضوء تمنح الأمل؛ فجلّ الروايات تنتهى بزوال الكارثة وعَودة الحياة تدريجيّا إلى طبيعتها، وبالطبع مع خسائر فظيعة فى الأرواح. غير أنّ هذه الحياة تغدو فى كلّ مرّة نقطة بداية لعالَمٍ جديد. فبعد زوال جائحة الأنفلونزا الإسبانيّة مثلا فى سنة 1919، انبرى العديد من الدول الغربيّة لإنشاء أنظمة صحيّة قويّة تضمن الصحّة كحقٍّ من حقوق الإنسان للجميع وتقديم الخدمة الصحيّة بالمجّان، نذكر على سبيل المثال روسيا التى بدأت بإنشاء نظامٍ صحّى شامل سنة 1920، وبريطانيا التى أثمرت تلك الجهود فيها فى العام 1948 بتأسيس المنظومة الوطنيّة للخدمات الصحيّة، أو ما يُعرف بـNHS. فهل ستمنحنا جائحة كورونا فرصةً سانحة لبزوغ عالَمٍ إنسانى جديد أكثر عدلا ومُساواة ورحمة؟
فى النهاية وأمام هذه الفظاعات الماضية والآنيّة وربّما الآتية، يظلّ الأدب الوجه المُشرِق من الكارثة كما قال الفيلسوف والأنتروبولوجى الفرنسى رونى جيرار René Girard.

التعليقات