نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «عدنان كريمة» ــ الكاتب والمحلل الاقتصادى اللبنانى ــ حول تطورات الصراع الدولى على غاز المتوسط وذلك بسبب كونه من أغنى مناطق العالم بالغاز الطبيعى ومن يتحكم بغاز البحر المتوسط يستطيع التحكم بالنظام الاقتصادى العالمى وهذا سبب رئيسى لتمسك روسيا بوجودها فى سوريا. بداية ذكر الكاتب أن القرن التاسع عشر كان «قرن الفحم»، وجاء بعده «النفط» فى القرن العشرين، ونعيش حاليا فى القرن الحادى والعشرين، حيث يشكِل «الغاز» مادة الطاقة الرئيسة، سواء لجهة البديل الطاقى، نتيجة تراجع احتياطى النفط عالميا، أم لجهة أهمية الطاقة النظيفة. ولذلك، تُعَد السيطرة على مناطق الاحتياطى «الغازى» فى العالَم بالنسبة إلى القوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولى فى تجلياته الإقليمية.
بما أن حوض البحر المتوسط هو بين المناطق «الأغنى» فى العالَم بالغاز، ومَن يملك سوريا، يملك الشرق الأوسط، وبوابة آسيا، ومفتاح بيت روسيا (بحسب كاترين الثانية)، وأول طريق الحرير (بحسب استراتيجية الصين)، فهو يستطيع أن يتحكَم بالنظام الاقتصادى العالَمى. ومن هنا يُمكن معرفة الأسباب الحقيقية لتمسك روسيا بوجودها فى سوريا، والذى قد يمتد إلى أكثر من مائة عام، بموجب اتفاقيات وقعتها مع نظام بشار الأسد، وهى مستعدة لخوض حربٍ عالمية من أجل استمرار نفوذها والحفاظ على مصالحها فى هذه المنطقة الحيوية. فما هى مراحل تطورات الصراع الدولى وأطرافه الإقليمية؟
منذ نحو 27 سنة، وبالتحديد بدءا من تسعينيات القرن الماضى، تسارعت وتيرة استكشاف النفط والغاز فى شرق البحر المتوسط، انطلاقا من حوض النيل فى المنطقة الاقتصادية المصرية الخالِصة، إلى حوض المشرق، أو كما سماه جغرافيو العرب بـ«حوض الشام»، ويغطى مياه غزة وفلسطين وشرق قبرص وسوريا ولبنان.
واستنادا إلى نتائج أعمال هذه الاكتشافات، وبخاصة تلك التى أجرتها المؤسسة الأمريكية للمسح الجيولوجى، والتى شملت مساحة 83000 كيلومتر مربع، تم تقدير متوسط موجودات الغاز الطبيعى بنحو 122 تريليون قدم مكعب، والسوائل بنحو 1.7 مليار برميل.
لم تتوقف أعمال الاستكشافات عند نتائج الجانب الأمريكى، فقامت دول المشرق وحوض النيل بإجراء مسوحات جيوفيزيائية لعشرات آلاف الكيلومترات المربعة، وحفْر عشرات آبار الاستكشاف والإنتاج، توِج آخرها باكتشافات تتجاوز 32 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى فى حقل «ظهر» من رقعة شروق الواقعة شمال حوض النيل المصرى. وتقوم شركة «إينى» الإيطالية بتطوير هذا الحقل الذى يُتوقَع أن يبدأ إنتاجُه فى العام 2019، ليُصبح مركزا إقليميا للغاز فى شرق المتوسط، وهى تخطط لاستخدام منصة وأنابيب عند الحقل لتصبح محور الصادرات بعد ربطه بحقولٍ قريبة وذات احتياطات محدودة نسبيا، ولا تملك الجدوى الاقتصادية الكافية للتصدير إلى أوروبا. ونظرا لأهمية هذا المشروع، وانسجاما مع أهدافها الاستراتيجية فى المنطقة، وقعت شركة «روس نفط» الروسية أخيرا صفقة مع الشركة الإيطالية بشراء نسبة 30 فى المائة منه، بمبلغ مليار و250 مليون دولار.
الصراع العربى الإسرائيلى
أضاف الكاتب أن الحقول المُتداخِلة بين إسرائيل ولبنان واليونان وقبرص أوجدت صراعا على هذا الكنز، ولم تكتفِ إسرائيل بمنع الفلسطينيين من الاستفادة من احتياطى الغاز فى المياه الاقتصادية الخالصة لهم، على الرغم من أنها انسحبت من غزة، ووفق القانون الدولى تُعد مخالفة، بل قامت ببسط نفوذها وحاولت استغلال بعض الحقول، فضلا عن استغلالها ثلاثة حقول تحت الاحتلال (لفيتان، وأفروديت، وشمشون) وتتجاوز احتياطاتها 36 تريليون قدم مكعب من الغاز وتقدر قيمتها بـ240 مليار دولار.
لقد استطاعت إسرائيل أن تسبق جيرانها من دول المتوسط فى تطوير صناعتها الغازية البحرية خلال العقدين الماضيين، ولكن هذه الصناعة تعثرت منذ بداية العام 2015 عندما اتهم مفوض سلطة مُكافَحة الاحتكار، الكونسورتيوم بقيادة الشركة الأمريكية «نوبل إنرجى» ومُشارَكة «ديليك» الإسرائيلية، باستحواذه بموجب الاتفاقات التى وقَعها مع السلطات النفطية، على الاكتشافات كلها، ومن ثم احتكاره امدادات الغاز الداخلية، ونتجت عن ذلك خلافات شارك فيها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مُعتبرا أن الأمر يتعلق بـ«الأمن الوطنى» وأُحيل الخلاف فى نهاية المطاف على المَحاكِم. وقد شكل عدم اهتمام الشركات النفطية بالصناعة الغازية الإسرائيلية ضربة كبيرة لطموحات تل أبيب فى التنافس مع مصر بعد اكتشاف «إينى» لحقل «ظهر»، كى تصبح مركزا إقليميا للصناعة الغازية فى المتوسط.
ولوحظ أن معالِم سياسات إسرائيل فى مجال الغاز بدأت تتضح، وهى تحاول إعطاء أولوية التصدير لدول الشرق الأوسط المُجاوِرة، وخصوصا تركيا والأردن ومصر، وذلك لأسبابٍ اقتصادية وجيوسياسية. فالشركات العاملة لديها بحاجة إلى سيولة نقدية لتطوير الحقول المُكتشَفة فى المياه العميقة الباهظة التكاليف؛ إذ إن تطوير المرحلة الأولى لحقل «لفيتان» يتطلب نحو ستة مليارات دولار، وتضطر الشركة المطورة إلى الاقتراض من الأسواق العالمية، وهى فى حاجة ماسة إلى عقد بيع وشراء تقدمه كضمانٍ فى مقابل الحصول على القروض. وبهذه الطريقة نالت شركة «نوبل إنرجى» قرضا بقيمة خمسة مليارات دولار، بعد توقيعها عقدا مع شركة كهرباء الأردن، وهذا يعنى أن عقود البيع للدول العربية تُسهم فى تطوير الحقول الإسرائيلية، وتحتاج الشركات العاملة فيها إلى تخفيض نفقاتها فى ظل انخفاض الأسعار، لذلك تتجه إلى الأسواق القريبة التى لا تحتاج إلى تكاليف باهظة.
وفى سياق توسعها فى التنقيب إلى المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، يبرز الوجه الآخر للصراع العربى الإسرائيلى، واستمرار الخلاف حول المنطقة الحدودية البحرية المُتنازَع عليها، مع العِلم أن حجم الاحتياطات البحرية اللبنانية من الغاز يقدَر بـ 96 تريليون قدم مكعب، ومن النفط 865 مليون برميل، وقد قدَم لبنان احتجاجا إلى الأمم المتحدة ضد الاعتداء الإسرائيلى.
سوريا «هدف» استراتيجى
فى العام 2008، جاء ترتيب سوريا فى احتياطى الغاز العالَمى فى المرتبة 43، وبواقع 240.7 مليار متر مكعب، وهو يتركز فى البادية شرق دمشق، وخصوصا فى منطقتَى حمص وتدمر، وكذلك الساحل السورى، وتغطى 88 فى المائة، مقابل 12 فى المائة فقط فى الجزيرة (شمال شرق سوريا).
ووفق دراسات حديثة، ستبدأ آبار الجزيرة بالنضوب بدءا من العام 2022، بينما باقى الحقول فى البادية والساحل، إذا بدأ استغلالها فى العام 2018، ستبقى حتى العام 2051 على الأقل. ولذلك يلاحظ أن تلك المناطق تشهد معارك قاسية فى اقتسام النفوذ، بين النظام مدعوما من روسيا وإيران، والقوات الكردية مدعومة من الولايات المتحدة. وتبرز فى هذا السياق أهمية تأمين الطريق البرى الاستراتيجى لإيران، والذى يخترق العراق فى نقطة الحدود بين البلدَين ثم شمال شرق سوريا إلى حلب وحمص، وينتهى بميناء اللاذقية على البحر المتوسط. ويتم ذلك تمهيدا لتنفيذ خط الغاز الإيرانى الذى وافق عليه نظام بشار الأسد فى (يوليو) 2012، والمدعوم من روسيا، مقابل رفض النظام للمشروع القَطرى الذى يقضى ببناء خط أنابيب عبر شمال غرب السعودية والأردن وسوريا إلى تركيا، لأنه يُنافس الغاز الروسى إلى أوروبا، مع العِلم أنه مدعوم من الولايات المتحدة، باعتباره وسيلة لتحقيق التوازن مع إيران.
وقد تمت عملية الرفض، على الرغم من وجود مصلحة مُشتركة بين البلدَين (قطر وإيران) اللذَين سبق أن خطَطا فى العام 1989 لتطوير حقل القبة الشمالية الذى يحتوى على51 تريليون متر مكعب من الغاز و50 مليار متر مكعب من المكثفات السائلة، وهو يُعتبر أكبر حقلٍ للغاز الطبيعى فى العالَم، ويقع نحو ثلث احتياطاته فى المياه الإيرانية، مقابل ثلثَين فى المياه القَطرية، وبما أن كلفة الغاز القطرى غالية، لأنه يُنقَل بالناقلات، ويُنافسه الغاز الروسى إلى أوروبا، لذلك اقترحت الدوحة تنفيذ هذا المشروع.
حرب الأنابيب
بما أن الهدف الاستراتيجى هو تصدير الغاز عبر الأنابيب إلى أوروبا، برزت تركيا عقدة الحل فى المُعادلة، خصوصا أنها تضغط لتكون جزءا من الاتحاد الأوروبى، وورقة الطاقة بيدها وهى متحمسة جدا للإمساك بالأمن «الطاقوى» الأوروبى.
وفى إطار الصراع الدولى، بدأت فى العام 2002 فكرة مشروع «نابوكو» بقيادة الولايات المتحدة، ودعم الحلف الأطلسى السياسى والاستراتيجى، وتم توقيع برتوكول الاشتراك بالمشروع من كونسورتيوم يضم شركات عدة (نمساوية، تركية، مجرية، رومانية، وبلغارية)، وهدفه الرئيس، ربط احتياطات الغاز فى آسيا الوسطى عبر بحر قزين بأوروبا، من خلال خط أنابيب يمتد إلى أذربيجان ثم إلى النمسا، من دون المرور بأراضى دولة روسيا، وبطول نحو 3300 كيلومتر. وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع الذى أُبرمت اتفاقيته فى منتصف (يوليو) 2009 فى العاصمة التركية (أنقرة)، فهو لم يرَ النور، وتم تعطيله لأسباب عدة أهمها لعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافية والسياسة والطاقة، فضلا عن تراجُع أهمية الولايات المتحدة فى العالَم بعامة، وفى منطقة المتوسط بخاصة، وخلافها مع أهم حلفائها، ولاسيما تركيا.
ختاما ذكر الكاتب أنه مقابل هذا التراجع، تقدمت روسيا بأشواطٍ فى سيطرتها على سوريا، وتحالفها مع تركيا، وتمسكها بمشروعها «الغازى»، حتى أن الرئيس فلاديمير بوتين راهَن على مشروعَين هُما السيل الشمالى والسيل الجنوبى ليكون إنجازهما «وسامَ استحقاقٍ» تاريخى على صدره، من أجل عودة روسيا إلى المسرح العالَمى، وإحكام سيطرتها على الاقتصاد الأوروبى.
وقد تسارعت الخطوات بتوقيع الاتفاقيات بين موسكو وأنقرة، وكذلك الخطوات التنفيذية، حيث تم إنجاز نحو 170 كيلومترا من أنابيب خط «السيل التركى» جرى مدها تحت مياه البحر الأسود، ويتكون المشروع من خطَين، يُخصَص أحدهما لنقل الغاز إلى تركيا لتلبية احتياجاتها، والثانى لنقل الغاز الروسى إلى أوروبا عبر الأراضى التركية.
النص الأصلى