الأطباء الهنود وعملهم داخل الحرمين الشريفين - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 2 أبريل 2025 9:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الأطباء الهنود وعملهم داخل الحرمين الشريفين

نشر فى : الثلاثاء 1 أبريل 2025 - 5:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 أبريل 2025 - 5:25 م

بالتمعن فى كتب الرحلات الهندية، والوثائق البريطانية، نطالع أخبارًا عن طائفة من الأطباء الهنود الذين لطالما توافدوا إلى الحرمين الشريفين لمزاولة مهنة الطب ومداواة الناس، متطوعين أو مقابل أجور زهيدة. وقد استقر بعضهم فى تلك البلاد، فاختاروها مسكنا ومدفنا لهم.
يتبين من تلك النصوص قدم هذه الظاهرة، غير أننا نستقى الأخبار الدقيقة عن هؤلاء الأطباء الهنود من الوثائق البريطانية، التى تفيدنا بأن الحكومة البريطانية الهندية، كانت ترسل الأطباء والجراحين والممرضين والعاملين فى المجال الصحى عموما إلى الحرمين الشريفين، بخاصة فى مواسم الحج؛ بسبب نقص الأطباء المحليين فى تلك البلاد وانتشار الأوبئة والأمراض فيها، فى الوقت الذى شهد الطب الحديث فى الهند تطورا كبيرا، فضلا عن انتشار الطب التقليدى مثل «اليونانى/ العربى والأيورفيدى والهوميوباثى»؛ أى الطب التجانسى أو الطب «المتجانس» فى جميع أنحاء الهند، حيث أنشئت كليات ومعاهد عدة فى معظم المدن الهندية الكبرى لتعليم الطب وتدريسه فى كل تلك الميادين وبشتى اللغات المحلية والدولية مثل: السنسكريتية والعربية والفارسية والأردية والهندية والإنكليزية على حد سواء. وقد ساعد هذا التطور فى علم الطب فى بروز طائفة من الأطباء الهنود الحاذقين الذين قدموا خدمات طبية مهمة وجليلة داخل الهند وخارجها.
وفى أثناء بحثى عن بعض الملفات الوثائقية، عثرْت على ملف وثائقى بعنوان «مسألة مزاولة أطباء هنود لمهنة الطب فى بلاد جزيرة العرب»، وهو يحوى عددًا من التقارير والمراسلات المتبادلة ما بين السلطات السعودية والبريطانية فى الحجاز والهند، والتى تتضمن مجموعة من المسائل والقضايا وتناقشها، وتكشف عن التحديات التى واجهها الأطباء الهنود فى الحرمين، كما تبرز تدخلات السلطات البريطانية فى حل تلك المسائل وتسهيل عمل الأطباء فى هذه البلاد.
• • •
يتبين من المراسلات المتبادلة بين السلطات السعودية والبريطانية أن الحكومة السعودية طالبت جميع الأطباء الهنود، وغير الهنود، بتقديم شهادات معترف بها من كليات طبية فى الهند، سواء فى الطب الحديث أم فى الطب التقليدى «الطب اليونانى العربى/ الطب الأيورفيدى»، شرطا للسماح لهم بمزاولة مهنة الطب فى الأراضى السعودية. ويظهر من تلك المراسلات أن المسألة أثيرت عندما وصل الطبيب الهندى، ويقال له «صاحب منكرى»، إلى المدينة المنورة، متطوعا، من إمارة حيدر آباد لمزاولة الطب الهوميوباثى، أى التجانسى، ولم تكن السلطات السعودية على علم بطريقة قدوم هذا الطبيب، وهل قدم إلى المدينة بنفسه أم أرسله نظام حيدرآباد، وفى الوقت نفسه أرادت معرفة ما إذا كانت شهادته فى ذلك التخصص الطبى موثوقة وصادرة عن كلية الطب المعترف بها لدى الحكومة الهندية البريطانية.
ولقد وصلتْ تلك المسألة إلى الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود الذى أرسل بدوره خطابا فى الحادى عشر من شهر يونيو 1931 إلى السير أندرو رايان (Andrew Ryan)، وزير شئون الخارجية البريطانية فى المفوضية البريطانية فى جدة، جاء فيه: «يشرفنى أن أحيطكم علما بأن المدعو صاحب منكرى عبد الرحمن خان يزاول مهنة الطب فى المدينة المنورة، وقيل إن حكومة حيدرآباد عينته فى الهند، للعمل متطوعا فى المدينة. ومع ذلك، فإن مزاولة هذه المهنة مسموح بها فقط لمن يحملون شهادات صالحة تخولهم مزاولة الطب. ولأن الشخص المذكور يحمل شهادة صادرة عن كلية فى الهند خاصة بالطب التجانسى، أود التكرم من سعادتكم بشأن إبلاغى فى أقرب وقت ممكن عن مستوى هذه الشهادة ومدى الاعتراف بها، وذلك لتمكين السلطات المعنية من اتخاذ الإجراءات المناسبة سواء بالسماح له بمزاولة مهنته أم غير ذلك».
تحركت السلطات البريطانية فى الهند، وأرسل نائب عن حكومة الهند فى دائرة الشئون الخارجية والسياسية إلى المقيم السياسى البريطانى فى إمارة حيدرآباد رسالة جاء فيها: «أرجو التكرم بالحصول على المعلومات المطلوبة من حكومتكم الموقرة بشأن قيمة الشهادة الطبية التى يحملها صاحب منكرى عبد الرحمن خان، بناء على طلب حكومة الحجاز. ويرجى إرسال هذه المعلومات إلى حكومة الهند لكى تنقلها بدورها إلى الوزير البريطانى فى جدة». وبعدما علمت السلطات البريطانية أن الطبيب منكرى حصل على تلك الشهادة من إحدى الكليات الطبية فى كلكتا، تواصلت مع محرر عام حكومة البنغال، وطلبت منه التحقيق فى هذه المسألة وكلفته بالحصول على نسخة من الشهادة الطبية ومقارنتها بالتى قدمها منكرى إلى السلطات السعودية، والتأكد من صحة تلك الشهادة المهنية وتقييم مدى صحتها فى حال عدم وجود أى اعتراض، كما طلبت إرسال نتائج التحقيق إلى حكومة الهند لإرسالها بدورها إلى القنصلية البريطانية فى جدة التى تلقت استفسارا بشأن الموضوع من حكومة الحجاز.
وأجرت حكومة البنغال تحقيقا حول تلك المسألة مع كلية إدوارد الطبية للطب التجانسى فى كلكتا، وقدمت لها نسخة من شهادة منكرى، وتبين أن شهادة الدبلوم صحيحة ومعتمدة، وورد فيها «تشهد الكلية أن عبد الرحمن خان، ابن المرحوم أحمد الله خان، قد استوفى متطلبات الدراسة وفقا للقوانين التنظيمية للكلية، وأكمل بنجاح دورة الدراسات فى كلية الطب والجراحة التجانسية. وبذلك يمنح هذه الشهادة ويحق له لقب دكتور فى الطب التجانسى (H.M.D.)، اعتبارا من تاريخ 12 أبريل 1928م». على أن حكومة البنغال أفادت حكومة الهند بنتائج التحقيق عكس ذلك، وأكدت لها أن الشهادة الطبية التى يحملها صاحب منكرى عبد الرحمن خان لا تحظى بأى قيمة مهنية. واكتفتْ بذلك ولم تعط أى تفاصيل أخرى أو أى أسباب معينة لإصدار ذلك الحكم. والسؤال المطروح هنا: هل كانت تلك الكلية غير معترف بها لدى حكومة البنغال، أم أن تلك الشهادة «شهادة دبلوم» لا تؤهل حاملها مزاولة الطب داخل الهند وخارجها؟ أما ما يتعلق بالسؤال الأول، فإن عنوان الشهادة «كلية إدوارد الطبية للطب التجانسى، وهى مسجلة لدى الحكومة ومعترف بها من قبل مجلس الطب التجانسى فى كلكتا ورابطة الأطباء».
• • •
وعلى كل، يتبين من مضامين المراسلات بشأن هذه المسألة أن السلطات السعودية كانت تشك فى صلاحية هذا النظام التقليدى للعلاج والمعالجة أيضا؛ ومن ثم ربما كانت ترى أنها لا تتوافق ومتطلبات المزاولة الطبية فى الحرمين الشريفين. ويتضح من واحدة من تلك المراسلات المتبادلة أن الحكومة السعودية رفضت السماح للطبيب سلطان بخش (زبدة الحكماء)، الطبيب المعتمد من كلية الطب فى لاهور بولاية بنجاب (The Punjab Provincial Tibbia Conference) بمزاولة الطب فى مكة.
والظاهر أن الطبيب المذكور آنفًا تواصل مع تلك الكلية وأخبرها بما جرى له، فأرسل الأمين العام لتلك الكلية رسالة طويلة إلى السلطات البريطانية فى الهند (بتاريخ 17 يوليو 1934) جاء فيها: «علمت كلية الطب فى لاهور أن الحكيم سلطان بخش، الملقب بـ «زبدة الحكماء» والطبيب فى كلية الطب فى لاهور، لم يسمح له بمزاولة الطب فى مكة أو المناطق المحيطة بها. ونظرا إلى دعم حكومة الهند لنظامى الطب اليونانى/ العربى والأيورفيدى، فمن الضرورى أن يسمح لحاملى شهادات الطب اليونانى من كلية الطب فى البنجاب بمزاولة المهنة خارج الهند. وفى ضوء هذه الحقائق، تناشد الكلية حكومة الهند بكامل اللطف والاحترام أن تعمل على تعزيز نظام الطب اليونانى فى الحجاز. كما يطلب من حكومة الحجاز أن تبلغ بأن أطباء الطب اليونانى من هذه المؤسسة، يجب ألا يواجهوا أى حظر على مزاولة مهنتهم.
بموجب ذلك دعمت السلطات البريطانية فى الهند والحجاز حقوق ذلك الطبيب ونظام الطب نفسه، وتوسطت بين الحكومة المحلية والسلطات الهندية لضمان قبول الشهادة الصادرة عن المؤسسات المعترف بها لدى الحكومة الهندية.
فى ضوء ما سبق، نستطيع القول إن الأطباء الهنود كانوا يواجهون صعوبات وتحديات عدة فى مزاولة مهنتهم فى الحرمين الشريفين، وأبرزها القيود التى فرضتها السلطات المحلية التى كانت تشترط امتلاك شهادات طبية ذات قيمة أو مستوى معترف به، وما كانت تتردد فى إرسال استفسارات إلى السلطات البريطانية بشأن تقييم مؤهلات الأطباء وشهاداتهم الطبية، ومن الجهة الأخرى نرى أنه كان للدور البريطانى أهمية محورية فى تسهيل عمل الأطباء الهنود فى الحجاز.
وهكذا، تظهر الوثائق أهمية الأطباء الهنود فى تعزيز الرعاية الصحية فى جزيرة العرب، لكنها تسلط الضوء أيضا على التحديات البيروقراطية والثقافية التى واجهتهم. يعكس هذا التاريخ تفاعلا معقدا بين القوى الاستعمارية والنظم المحلية، وهو ما يعزز ضرورة دراسة هذه المرحلة لفهم تأثيرها فى تطوير العلاقات الصحية والثقافية بين الهند وجزيرة العرب.

صاحب عالم الأعظمى الندوى

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلى

التعليقات