يتحدث الكثيرون عن الاستشراق بأبعاده المختلفة وأكثرها تأثيرا بنا ربما هى الصور الذهنية المترسخة فى أذهان الكثير من الأوروبيين وغيرهم عن العرب والعربى والعربية. ورغم النقد المستمر لها إلا أن تلك الأنماط أو الصور تبقى ساكنة مستكنة فى زوايا وثنايا الأدمغة حتى تأتى اللحظة المناسبة أو غير المناسبة ــ أبدا ــ فتقفز مسببة كثيرا من الذهول والاندهاش لدى المتلقى والذى قد يكون خدع كثيرا بالخطاب المخالف للخطابات التقليدية للمستشرقين وفكرهم.
كثير من هؤلاء هم بيننا يقيمون هنا، بل ربما يفوزون بوظائفهم بناء على الاعتقاد بأنهم/أنهن غير تقليديين، وعلى معرفة واسعة بالمنطقة وتضاريسها البشرية وتفاصيلها الذكورية والنسوية، بل وكل شرايين الأعراق والأديان والطوائف المختلفة. ولا يلبثون طويلا قبل أن تنكشف الحقيقة وهى أنهم لم يخرجوا بعد من «عباءة» الاستشراق ولا تزال الكثير من الصور العالقة بأذهانهم هى صور نمطية جدا.
***
كل هذا قد يبدو مقبولا بعض الشىء فالتنميط والتسهيل فى تصنيف البشر مرض غير حكر على الأوروبيين والأمريكان وغيرهم من غير العرب، بل إن كثيرا من العرب قد أصابهم الداء منذ زمن طويل حتى أولئك الذين يكثرون من هجاء ونقد المستشرقين. النظرة التسطيحية والتبسيطية ليست اختراعا أوروبيا حتما؛ بل هى منتشرة بيننا بشكل جلى رغم الكثير من التبريرات، وكان أولها أن لا الحكام ولا جامعتهم العربية قد ساهموا فى تقريب الشعوب بل ربما هذا اعتقاد سائد بأنهم عمقوا الهوة بين الشعب والشعب الملاصق له حسب الجغرافيا والتاريخ وقبل سايكس بيكو، وأمثالهم الكثر الذين ساهموا بإتقان شديد فى تقسيم فاشل هو الآن ربما يبدو فى زوال.. ربما!
***
رغم كل هذه الحجج إلا أن الواقع يكتشفه من يحاول البحث خلف القشرة أو الغلاف ولا نقول فى العمق لأن الاستشراق إذا ما صنفناه كمرض هو من أكثرها انتشارا بين العرب وبعضهم بعض. هل سمعت عن النظرة الأولى التى تفصل المشرق عن المغرب العربى؟ ابقَ واستكن خلال نقاش حاد دار بين جزائرى وعراقى لتدرك حجم الاستشراق والنظرة النمطية بين العرب أنفسهم؛ والتى قد يكون سببها الأول قلة المعرفة وانتشار صور روج لها الإعلام الحكومى حسب علاقاته السياسية بهنا أو هناك.
استرق السمع فى الندوات «القومية» جدا لتطوف كلمات هنا وهناك لا تنم إلا عن كثير من النمطية والتقليد شبيهة بصور الاستشراق أيضا. حتى فى مثل هذه المنتديات التى يقوم عليها ويعقدها ويشارك فيها قوميون حقيقيون لا تشكيك فيهم سواء اتفق المرء أو اختلف معهم، إلا أنها هى الأخرى تعج بالكثير من ضوضاء الكلام والتعبير الذى يدل على نظرة استشراقية بحتة. ربما لأنها النافذة الوحيدة التى كانت موجودة ليطل منها العربى على العربى رغم أن الادعاء اليوم هو بأن الإعلام العربى مملوك فى كثيره من قبل أموال خليجية هى أيضا قريبة من الحكم أو معارضة شديدة له، لا حل هناك وسط بين الاثنين، إلا أن الإعلام العربى اليوم لم يفتح نوافذ بل أغلقها وأوصدها فى وجوه الكثير من العرب وراح هو الآخر ينمط الصورة للعربى عن العربى الآخر الذى لا يبعد عنه كثيرا سواء فى الجغرافيا أو التاريخ أو اللغة أو العادات والتقاليد.
***
خلال السنوات القليلة الماضية اكتشف العرب بعضهم ربما بشكل أكبر ولن نقول أفضل عبر وسائل التواصل الاجتماعى، ولكنها ــ وذلك جزء من عيوبها الكثيرة ــ هى مختصرة شديدة البخل فى التوسع مما يساهم أيضا فى عدم القدرة على توضيح الصورة؛ التى هى ــ ونتيجة لسنين طويلة من التراكمات لصور نمطية ــ بحاجة إلى تفسير أكبر. حتى النظرة التبسيطية أن الدول العربية الأفريقية تتشابه هو ما تم إثباته بالفعل خلال الخمس سنوات الماضية بأنه تبسيط لتعقيدات جمة فى تلك المجتمعات الممتدة والمطرزة بتفاصيل أكثر صعوبة من أن يستوعبها المرعب عبر تغريدة.
أما المشرق العربى فهو الآخر رغم الكثير من التشابه إلا أنه أيضا يمتلك تضاريس صعب تفكيكها فى «بوست» على الفايسبوك أو صورة عبر الإنستجرام. ثم لا بد من الحديث عن الخليج الذى يؤخذ ككل واحد فى سلة واحدة حتى أصبح الأمر مضحك أحيانا ومبكى فى الكثير من الأحيان. فلا هناك خليج واحد ولا دول مجلس للتعاون متشابهة حد الوحدة المصطنعة. فالخليج هو الآخر وقع فى فخ أو ربما شرك أعمال إعلامه، ففيما الإعلام يشع عبر العديد من الفضائيات من الخليج إلا أنه لم يستطع حتى إلا أن يكرس ذات الصور النمطية كثيرة التبسيط والسذاجة أحيانا. ربما لأن القائمين على هذه المحطات هم الآخرون منقسمون كما هو حال الانقسام العربى وربما لسوء ورداءة أو سطحية العاملين من الخليج فى هذه المحطات.
***
الأهم أننا اليوم وقبل غدا بحاجة إلى إعادة النظر لفهمنا لعالمنا الأقرب المحيط بنا قبل اتهام الآخرين بالاستشراق؛ لأن الداء والمرض قد أصاب العضم ولم يعد عند سطح الجلد.