د/محمد المهدى من أساتذة الطب النفسى المرموقين فى مصر، وهو من القلائل الذين جمعوا بين علوم الدين وعلوم النفس البشرية وقراءتها قراءة صحيحة.. فالعالم الحقيقى هو من يحسن قراءة الكون الذى يعيش فيه ويحسن قراءة نفسه ونفوس الناس
والتبحر فى فكر د/محمد المهدى ــ الذى اعتبره مفكرا شاملا قبل أن يكون أستاذا للطب النفسى بجامعة الأزهر ــ يعد متعة فكرية وإنسانية حقيقة إذ إنه يجمع بين دقة العلم وسلاسة عرضه فيكون كالماء الزلال للعطشان.
والغوص فى أعماق فكره يحتاج لمقالات ولذا سأحاول اختصاره وفكره فى مقالين اثنين هذا أحدهما.
فهو يحاول قراءة الاشكاليات الجوهرية فى الخطاب الدينى المعاصر فيذكر منها «الخلط بين الأصول والفروع، والتجزىء والتفكيك للدين مما يحوله لقضايا منفصلة بعيدة عن جوهرة الكلى، السلطوية والتسلطية من بعض الدعاة مما يقلل فرصة الحوار الرشيد والنقد الموضوعى ويؤدى ذلك إلى الميل، إما إلى السمع والطاعة المطلقة أو التمرد العنيف، وكذلك الخطاب الترهيبى لدرجة التنفير أو الترغيب الطفولى، وكثرة المفاهيم الخرافية وكذلك تسييس الخطاب الدينى مما يجعله يفقد نقاءه وصفاءه وتجرده وروحانيته وذلك يفقد الناس الثقة فى حياديته، وإهمال بعدى المعاملات والأخلاق والتركيز على بعدى العقائد والمعاملات».
ويرى العلامة د/المهدى ان الدعاة يحتاجون لإعداد نفسى يؤهلهم للتواصل مع مجتمعاتهم بكل اطيافها وتعددها
وينصح الدعاة بأن يدرسوا أنماط التدين المختلفة مثل التدين المعرفى أو العاطفى «الحماسى» أو الطقوسى أو الانسحابى «الهروبى» أو العصابى «الدفاعى» أو البراجماتى النفعى الانتهازى أو الصراعى أو «الصدامى» أو الوسواسى أو المغشوش، أو المنقوص أو المشوه».
وكأنه يريد أن يقول للجميع إن التدين يمكن أن يبدأ بمثل هذا الخلل ولكن مهمة الداعية أن يحوله إلى تدين صالح سليم وسطى، فمهمة الداعية الحقيقية تكمن فى تحويل حماس الشباب الوقتى للتدين إلى ايمان راسخ وعمل دينى صحيح.. فالحماسة سرعان ما تذهب وقبل ان تذهب قد تأتى على الأخضر واليابس.
والداعية الحقيقى هو من يحول هذه الحماسة أو التدين الصراعى إلى إيمان راسخ فى القلب يدعو إلى المحبة والسلام والوئام، ويتصالح مع ربه ومجتمعه ونفسه والناس أجمعين.. ولكن تعبيراته تحمل دوما تعبيرات علم النفس وليس اصطلاحات الدعوة فلم يصفها بمثل هذه الصياغات الدعوية.
أما بالنسبة لقضية الإلحاد فيرى د/المهدى أنه قديم قدم الزمان، وأنه ظاهرة متواترة فى كل العصور والمجتمعات حتى فى وجود الانبياء والرسل، ولكنه يتسع ويتزايد فى بيئات معينة تغذى الالحاد، ويرى أنه للإلحاد أنماط ومستويات متعددة، فهناك الالحاد المطلق الذى ينكر الألوهية والرسالات النبوية، وهناك الجزئى الذى يعترف بالألوهية وينكر الربوبية، أى تصرف الله فى خلقه وكونه.
ومن أنواع الالحاد عنده إلحاد «العدمية» وهو اليأس من عدالة الأرض والسماء والشعور بلا جدوى.
ومنه «الإلحاد العابر» والإلحاد «الباحث عن اليقين» والإلحاد «الكيدى الانتقامى» والإلحاد «الابتزازى، والإلحاد الاستعراضى، والإلحاد الاستهزائى الذى تغلفه السخرية من المقدسات وثوابت الأديان.
أما دوافع الإلحاد عند د/المهدى فهى فى الغالب نفسية أو عائلية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فلسفية أكثر منها دينية عقائدية.
وهذه الأسباب تكون كامنة ومحركة لسلوك صاحبها حتى دون أن يدرى، لذلك لا تجدى معها غالبا الحوارات الدينية أو تقديم الأدلة والحجج لأن المشكلة فى الأصل ليست دينية.
ويرى د/المهدى أن أهم العوامل التى تدفع لإلحاد الشباب هى الهوة المعلنة وبين القيم السائدة فى المجتمع فيرى المجتمع منافقا.
ويرى أن الالحاد قد يكون ردة فعل عنيفة على حالات التطرف الدينى فى المجتمع، أو ردة فعل على الخرافة فى الفكر الدينى.
وقد يكون ردة فعل على رغبة البعض فى اقحام الدين فى كل تفاصيل الحياة البشرية بحجة أن الدين منهج متكامل وهى كلمة حق يراد بها باطل.
وقد يكون ردة فعل للتدين الصراعى الذى يفرق البشر ويخلق حالة من العنصرية والاستعلاء والإقصاء والكراهية، أو ردة فعل لتوظيف الدين سياسيا وحربيا فيؤدى لحروب تزهق فيها الأرواح باسم الإله.
أو يكون للملحد مشكلة مع الاب والآم فى الأرض فيعمم صراعه مع الرب سبحانه.
أو أنه حالة من الخلع الاجتماعى أو نتيجة تعثر أو اختطاف أو فشل ثورات الإصلاح.
ويرى بأن الإلحاد يكثر فى الشخصيات ذات الاضطرابات النفسية فيكثر فى الشخصية الحدية أو الهستيرية والبارانوية وأنها خلل فى النفس أكثر منها خلل فى التربية والعقيدة.
ويرى أنه فى معالجة الإلحاد ينبغى أن نفرق بين «الخارج من الدين والخارج على الدين» فالأول له مشكلة فى قناعته الدينية أدت إلى انسحابه من الدين بشكل فردى وهادئ دون محاولة زعزعة عقائد الآخرين أو الترويج للإلحاد.
أما الخارج على الدين فإنه يدعو الآخرين إلى الإلحاد، ويقيم شبكات مرتبطة بأجندات سياسية أو جماعات مصالح تحتية للسخرية من الأديان ومعتنقيها والطعن فى الألوهية والنبوات والرسالات، وتسفيه المجتمع.
والفئة الثانية ذات الأجندات وشبكات المصالح الاقليمية والدولية فتتولى الجهات القانونية أمرها بالتعاون مع العلماء والمفكرين دون مبالغة فى التخوين أو العقاب، وكل منهما يحتاج إلى تعامل مختلف.
ويضع د/المهدى جملة من النصائح للتعامل مع الملحدين من النوع الأول لا يتسع المقال حتى لبسط عناوينها.
سلام على العلماء الجادين المخلصين أمثال د.محمد المهدى الذى لم تعرف بلادنا حتى اليوم قدره وقيمته كعالم.