عن الضرورة الوجودية للعلوم الإنسانية - ياسمين الشاذلي - بوابة الشروق
الإثنين 8 سبتمبر 2025 12:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

عن الضرورة الوجودية للعلوم الإنسانية

نشر فى : الأحد 7 سبتمبر 2025 - 6:20 م | آخر تحديث : الأحد 7 سبتمبر 2025 - 6:20 م

يواجه العالم تحديات لا تُحصى، كالتغير المناخى والصراعات السياسية والثورة التكنولوجية وغيرها، مما قد يؤدى إلى هلاك عالمنا كما نعرفه إن لم نتكاتف فى مواجهتها. وفى هذا الوقت الحرج نرى تراجعًا ملحوظًا فى الاهتمام بالعلوم الإنسانية، ليس فى مصر فحسب، بل فى العالم أجمع، لصالح ما يُعرف بعلوم الـSTEM (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات)، وهذا فى غاية الخطورة. ففى الوقت الذى يغزو فيه الذكاء الاصطناعى عالمنا ويهدد بتغييره بشكل لا ندركه بعد، نحن فى أشد الحاجة إلى علماء فى العلوم الإنسانية لدراسة أثره على الإنسان وعالمه.

 

 

العلوم الإنسانية ليست مجرد دراسة للماضى أو سردٍ للقصص التاريخية ومناقشة الفلسفات والنظريات، بل هى وسيلة لفهم الإنسان وتفاعلاته المعقدة مع محيطه من خلال التاريخ والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع. تبنى هذه العلوم رؤية شاملة تُعيننا على استيعاب الحاضر واستشراف المستقبل. ورغم هيمنة العلوم الطبيعية والتكنولوجيا فى عصرنا، فإن العلوم الإنسانية تبقى الأداة التى تُضفى على التقدم المادى بُعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا.
نشرت جريدة The Atlantic بتاريخ ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ مقالًا مهمًا بعنوان: «If the University of Chicago Won’t Defend the Humanities, Who Will?» (إذا كانت جامعة شيكاغو لن تدافع عن العلوم الإنسانية، فمن سيفعل؟) بقلم تايلر أوستين هاربر. يناقش المقال إعلان جامعة شيكاغو، المعروفة بتميزها فى العلوم الإنسانية، عن تخفيض قبول طلبات الدراسات العليا فى سبعة تخصصات إنسانية، مثل تاريخ الفن والأدب الإنجليزى، وتجميد القبول تمامًا فى تخصصات أخرى مثل الكلاسيكيات.
وجّهت عميدة الفنون والإنسانيات، ديبورا نلسون، هذه القرارات إلى «الظروف المالية المتغيرة» و«لحظة من عدم اليقين»، فى إشارة إلى الموجة الحالية وديون الجامعة الضخمة (حوالى 6.3 مليار دولار)، إضافةً إلى مخاطر تمويلية، منها استثمار غير ناجح فى مجال العملات المشفّرة. يشعر العديد من الأساتذة أن هذا القرار لا يهدد مستقبل طلاب الدراسات العليا وحدهم، بل يضع أيضًا فى خطر وجود مجالات معرفية إنسانية دقيقة ونادرة قد تختفى مع مرور الوقت. كما يرى هؤلاء الأكاديميون أن وظيفة الباحث الإنسانى تتعدى مجرد إعداد الكوادر الأكاديمية، فهى أيضًا تحافظ على تراث البشرية وثقافتها. ويخشى البعض أن «المعرفة، إذا اختفت، قد لا يُعاد إنتاجها بمجرد وجود كتب». يطرح المقال سؤالًا جوهريًا: إذا كانت إحدى أبرز الجامعات الأمريكية قادرة على تهميش الدراسات الإنسانية، فمَن سيحميها؟
من أبرز الأمثلة على دور العلوم الإنسانية فى تفسير مسارات الحضارة ما عرضه المؤرخ إريك كلاين فى كتابه 1177 B.C.: The Year Civilization Collapsed (١١٧٧ ق.م.: السنة التى انهارت فيها الحضارة). تناول الكتاب انهيار حضارات شرق البحر المتوسط فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد، حين أدت مجموعة من العوامل المترابطة، مثل التغيرات المناخية والهجرات والحروب واضطرابات شبكات التجارة، إلى سقوط أنظمة سياسية واقتصادية كانت تبدو قوية ومستقرة. يوضح كلاين أن الانهيار لم يكن بسبب عامل واحد، بل نتيجة تضافر ظروف محفِّزة فى وقت واحد بشكل عاصف. هذا التحليل يمنحنا فهمًا عميقًا لمدى هشاشة النظم الإنسانية حين تواجه أزمات معقدة، وهو درس بالغ الأهمية فى عالمنا المعاصر.
ويقدّم المؤرخ يوفال نوا هرارى فى أعماله مثل Sapiens وHomo Deus وNexus مثالًا بارزًا على قدرة العلوم الإنسانية على تجاوز حدود الماضى لتفسير الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. فهو يربط بين التغيرات البيولوجية والثقافية والتكنولوجية ليعرض سيناريوهات عن مستقبل البشرية: هل ستتفوّق الآلات الذكية على الإنسان؟ هل سنتمكن من التحكم بالجينات لبناء «الإنسان المعدّل»؟ هذه الأسئلة لا تندرج ضمن إطار العلوم الطبيعية وحدها، بل تحتاج إلى منظور إنسانى يجمع بين الفلسفة والأخلاقيات والتاريخ لفهم آثارها العميقة على المجتمعات.
وعلى الرغم من أن المؤرخين ليسوا عرّافين، فإنهم يمتلكون قدرة مميزة على استشراف المستقبل استنادًا إلى دراسة الأنماط التاريخية. فالتاريخ يعيد نفسه فى صور مختلفة: الأوبئة، والأزمات الاقتصادية، وصعود الإمبراطوريات وسقوطها. دراسة هذه الأنماط تساعدنا على توقّع النتائج المحتملة للتغيرات الكبرى فى عصرنا، مثل التغير المناخى أو الذكاء الاصطناعى، وبالتالى صياغة سياسات أكثر وعيًا وتخطيطًا.
المؤرخون خط الدفاع الأول
عن تاريخ مصر وهويتها
تصاعدت فى السنوات الأخيرة موجات من الخطابات التى تحاول إعادة تفسير التاريخ المصرى القديم بطرق مثيرة للجدل، متجاهلة الحقائق الأثرية والعلمية الراسخة. من أبرز هذه الخطابات ما يأتى تحت راية «الأفروسنتريك»، التى تسعى لإعادة قراءة التاريخ المصرى لخدمة أجندات ثقافية وسياسية معاصرة، وكذلك ادعاءات أخرى تزعم أن الحضارة المصرية العظيمة لم تكن نتاج أبناء هذا الوطن، بل من صنع شعوب أو قوى مجهولة. هذه المزاعم لا تهدد الحقائق التاريخية فحسب، بل تمس أيضًا هوية مصر ومكانتها كواحدة من أعرق الحضارات فى العالم.
فى مواجهة هذه الحملات يبرز دور المؤرخين بوصفهم حماة الذاكرة الجماعية للمجتمع. فالمؤرخون المصريون يمتلكون الأدوات العلمية والمنهجيات الدقيقة التى تمكّنهم من إثبات الحقائق التاريخية استنادًا إلى النقوش والبرديات والاكتشافات الأثرية والدراسات متعددة التخصصات مثل علم الوراثة والأنثروبولوجيا. ومن خلال هذا العمل المتكامل يستطيعون تفنيد الادعاءات غير الموثوقة وتصحيح الروايات الزائفة، مقدّمين صورة متوازنة للتاريخ المصرى تعترف بالتفاعل مع الحضارات الأخرى دون المساس بأصالة الهوية المصرية.
ختام
العلوم الإنسانية تساعد على إدراك هشاشة الأنظمة العالمية، وعلى التفكير فى السيناريوهات المقبلة، وعلى ترسيخ القيم التى تجعلنا أكثر إنسانية، كما تمنحنا القدرة على حماية تاريخنا وهويتنا. إن إهمال العلوم الإنسانية يعنى فقدان القدرة على قراءة البوصلة الحضارية، بينما الاستثمار فيها هو استثمار فى وعى الإنسان وكرامته ومستقبله.

 

 

معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق
ونائب رئيس اللجنة الوطنية المصرية للمجلس الدولى للمتاحف

ياسمين الشاذلي معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق والمشرف على إدارة المنظمات الدولية والتعاون الدولي الأسبق
التعليقات