نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتبة ملحة عبدالله، توضح فيه أن دور المسرح لا يقتصر على الإضحاك كما يعتقد البعض، بل يتجاوز ذلك إلى دور تربوى وأخلاقى وإنسانى عميق، يجمع بين البهجة والحزن، والضحك والبكاء، باعتبارهما وسيلتين لتحقيق التوازن النفسى والروحى لدى المتلقى، مع التأكيد على أن المسرح والشعر أدوات لتعليم الفضيلة وغرس القيم، وليس مجرد ترفيه.. نعرض من المقال ما يلى:
من الأخطاء الشائعة لدى البعض لمفهوم المسرح هو الضحك، وهو خطأ جسيم، أذكر حينما قدمت دعوة لأحد كبار المسئولين دعوة للمسرح سألنى قائلا: سنضحك؟
إن للمرح وظيفة جليلة وجد من أجلها، ويجب على النقاد التوجيه والتوعية لهذه الوظيفة، فالضحك أو البكاء وهما «ظاهرة السرور والكدر» هما من خصائص التلقى المسرحى والدرامى لما يثيره هذان الانفعالان من وظيفة نفسية فسيولوجية.
فلقد أظهرت دراسات عدة أن الضحك يساعد على خفض الشعور بالألم، فالضحك يساعد على إفراز هرمونات تسمى بيتا أندروفين فى المخ وهذه المادة بدورها تؤثر فى المستقبلات الحسية وتخفض حساسية الألم التى تصنعها التراجيديا فى ثنيات العمل المسرحى. ثم يربط انفعال الضحك وانفعال البكاء فى أن كليهما يحقق السعادة والمتعة وهى وظيفة من وظائف المسرح سواء فى الكوميديا أو التراجيديا عن طريق السرور والكدر. لأن المسرح بكل عناصره من لون وصوت وكلمة يؤثر على مادة الـ«بيتا أندروفين» وبالتالى يؤثر فى كيمياء المخ، ومن هنا يحدث السرور أو الكدر وقد يدفعه إلى اتخاذ القرار وهو أخطر ما فى الأمر.
ارتبطت فكرة الانفعالات المختلطة بالتراث الشرقى، وفى أفكار عقيدة الزن Zan البوذية، وفى فكرة الين واليانج أيضا، ولم ترَ الثقافات القديمة أى تناقض فى هذا الاختلاط الظاهرى بين الانفعالات وتصنيفها، مثلما فصلوا بين المعادن والنبات والحيوانات والصخور.. الخ وصنفوها. إن ظاهرة «الذات المختلطة» كما يسميها أفلاطون: حيث زواج الضحك بالبكاء، والبهجة بالأسى، واللذة بالألم، كانت أمرا شائعا ومعروفا عبر تاريخ الضحك.
وبما أن هذين الانفعالين يؤديان بدوريهما للذة والسرور أو الأسى والكدر، فذلك يدل على التخلص من الطاقة الزائدة فى النفس عن طريق التوتر والقلق والترقب الزائد ما يؤدى إلى الاسترخاء والشعور بالراحة ومن ثم المتعة نتاج ذلك الأنس الذى تأنسه النفس جراء هذا التوازن ولا تنفر من المسرح بل تأنسه أنس الذات لذاتها.
• • •
يبدو أن التعصب الدينى الذى بدأ نشاطه مع أوائل القرن السادس عشر (الحركة اللوثرية) فى ألمانيا وتتوسع لتشمل معظم دول أوروبا فى ذلك الوقت قد أثر فى آراء نقاد ومفكرى وكتاب هذا القرن الذين دافعوا عن الشعر والمسرح مؤكدين الدور الحيوى الأخلاقى الذى يؤديه هذا الفن.. ونذكر منهم المؤلف الفرنسى ليون دى سومى «1527-1592» الذى عرف المسرح من خلال الدراما: هى محاكاة لحياة البشر تهاجم الرذائل وتبغضها وتمجد الفضائل وتحث الشعب على اتباعها.. أما فليب سيدنى «1554-1586» فقد كتب مقاله الشهير (دفاع عن الشعر) ليرد به على ادعاءات جماعات المتطهرين (المتعصبين الدينيين) الذين رأوا أن الشعر وحى من الشيطان، وقد انطوت هذه المقالة على عدة مبادئ نقدية مهمة تركت بصماتها فيما بعد على مسيرة النقد المسرحى فى القرون التالية. نذكر من هذه المبادئ تأكيده على فطرية الشعر كـ(محاكاة) فهو تراث إنسانى شائع فى كل زمان ومكان.
كل ذلك تأكيد على الوظيفة النفعية للشعر عن طريق تمجيده للحق وتنمية الأخلاق وغرس الفضائل، ثم أخذ سيدنى يفند حجج معارضى الشعر ويقيم الدليل على عكسها، فيقول ردا على ادعاء المثاليين: إن للشعر تأثيره على عواطف وأذهان الناس، وخاصة الشباب بما يتنافى ومصالح الجماعة فيؤكدون القيم الروحية التى يتضمنها الشعر بمفهومه الحقيقى لا يمكن وأن تتعارض مع مصالح الكثير، وإن وجد شىء من هذا القبيل فهو موجود فى الشعر الردىء الذى لا يصل بصاحبه للشاعرية الحقة.
ويرى الفلاسفة المسلمون أن الشعر كاذب لأنه يصدر من المتخيلة، وأن ما يكسبه صفة الصدق أو الكذب هو البرهان المنطقى، ولذلك جعلوا العقل هو الحجة القائمة على إثبات مصداقية الشعر، فالعقل لديهم هو المعيار الذى يستند إليه الإبداع. إلا أن فيليب سيدنى يرى أن الشعر ليس من خصائصه الكذب أو الصدق، لكنه يبتكر عالما مثاليا حقائقه روحية ونفسية مستمدة من الوقائع البشرية، ويستمد سيدنى من هوراس كلمته أن الشاعر يمتع ويعلم ليضيف إليها. فتعليمية الشعر والمسرح هى الوظيفة الأولى لدى كل من هوراس وسيدنى فيقول: «إن الشاعر يحاول أن يحاكى، وهو يحاكى ليمتع ويعلم، يمتع ليدفع الناس إلى معانقة الفضيلة التى لولا المتعة لفروا منها كما يفر المرء من الغريب، ثم إنه يعلم ليجعلهم يدركون أن الفضيلة هى ضالتهم وهو نبل توجيه الجميع إليه؛ أى التعليم».
ويعلق دافيد ديتشز على فيليب سيدنى أن إصراره على جعل وظيفة الشعر خلق عالم مثالى من الذهب بدلا من عالم الواقع المعاش مكّنه من خلق نظام للأنواع الأدبية، فاستطاع الدفاع عن الهجاء الساخر «الساتير» بأنه ذلك النوع الذى جعل الإنسان يضحك من حماقته وهى تلك الازدواجية بين السرور والكدر، وعن الملهاة أنها تجعل الأخطاء الشائعة فى الحياة مثيرة للهزء، وعن المأساة أنها تبين النتائج الرهيبة للطغيان ما يجعل الملوك يخشون أن يكونوا طغاة، إلا أن الشعر المفضل لدى «سيدنى» هو ذلك الذى يصور تصويرا مباشرا ذلك النوع من الفضائل التى ينبغى أن يساق إليها القراء، وهو كما أشار سيدنى الشعر البطولى أو الملحمى.
إن فيليب سيدنى بدفاعه عن الشعر قد وقف أمام هجوم أفلاطون وجماعة المتطهرين واكتشف فى سبيل ذلك معيارا للشعر مؤكدا على المضمون الأخلاقى التعليمى، لكنه فصل بين الصورة والمادة، أى بين الشعر والمحاكاة (صورة) و(المادة) المستمدة من الواقع كموضوع للمعاناة مخالفا أرسطو، فلم يبرر سيدنى لوجود الشعر بإفراد الخصائص المميزة التى يجب أنه يدرك بها مفهوم الشعر لكنه يذهب مذهب أفلاطون فى تطبيق مقياس تقييم واحد هو المضمون التعليمى الأخلاقى، ولكنه على عكس أفلاطون والمثاليين يخلص إلى أن العاطفة ليست من الشيطان بل يمكن اصطناعها لغرض الفضيلة وأن الشعر أقوى أثرا من حيث التعليم الأخلاقى من الفلسفة والتاريخ.
لذلك نجد أن سيدنى قد استبدل كلمة الخوف بكلمة الدهشة فى معرض قصيدته عن المأساة البطولية، ففى مجال البطولات يرى أنه لا يوجد مجال للخوف بل هناك مدعاة للإدهاش والإعجاب بالبطولة.
• • •
لقد كانت المسرحيات البطولية من أبرز مميزات مسرح العودة إلى الملكية فى انجلترا فى القرن السابع عشر، وهى أشبه بالملاحم، وهذه المسرحيات البطولية تأثرت ولا شك بالمسرح الإنجليزى الإليزابيثى واليعقوبى المتميز بأعمال شكسبير ومعاصريه والتى لم تكن تلقى بالا كبيرا لشروحات وأفكار وقواعد نقاد عصر النهضة المستقاة والمقتدى بها لفن الشعر لأرسطو.
وبذلك كان شعار المسرح منذ بدايته هو ذلك الوجه الضاحك الباكى فى الوقت نفسه إلى يومنا هذا.