منذ نحو عشرين عاما كنت أدير وحدة للتنبؤ بسعر الصرف فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصرى، وكان الباحثون حينها يواجهون صعوبة بالغة فى تقدير الناتج المحلى الإجمالى لمصر على أساس فصلى، إذ إن الاعتماد على المشاهدات السنوية لهذا البيان المهم تؤثر سلبًا على دقة التنبؤ بمختلف المتغيرات ذات الصلة. وإذا كانت بعض المشروعات البحثية قد عمدت إلى تقدير الناتج المحلى على أساس فصلى وبعضها على أساس شهرى، فإن منهجية تلك الأبحاث والنماذج المتضمّنة بها قد تطوّرت مؤخرًا بشكل كبير، وأصبحت تتمتع بقدر أقل من التحيّز، حتى إن صدور معدلات النمو ربع السنوية على المستوى الكلى للاقتصاد، وعلى المستوى القطاعى أيضًا، أصبح حدثًا مهمًا لمحللى الاقتصاد.
• • •
فى واحدة من اللمسات الإيجابية المبكّرة للوزيرة النشطة الدكتورة رانيا المشّاط، بعد تولّيها لوزارة التخطيط إلى جانب ملف التعاون الدولى، أصدرت الوزارة تقريرًا تحليليًا عن تطورات ونتائج الناتج المحلى الإجمالى المصرى للربع الرابع والعام المالى 2023/2024. التقرير صادر بشكّل مبسّط وباللغتين العربية والإنجليزية، ومرفق به بيان صحفى شارح. التقرير هو أحد تجليات عودة وزارة التخطيط إلى مسارها الصحيح، الذى تشغل فيه مساحة شاغرة تركها غياب وزارة للاقتصاد عن التشكيل الحكومى، وهو كذلك يخلو من الانتقائية التى غلبت على تقارير سابقة لبعض الوزارات، كان تسليط الضوء فيها على البيانات الإيجابية بشكل حصرى.
يقدّم التقرير المشار إليه قراءة منصفة متوازنة للعوامل التى أدت إلى تراجع معدّل نمو الناتج المحلى الإجمالى عن العام المالى المنقضى، مشيرًا إلى أنها مزيج من العوامل الدولية والإقليمية، ونتاج منطقى لسياسة انكماشية وطنية، كان لا بد من تبنّيها خلال العام المالى السابق - خصوصًا فى ربعه الأخير- للاشتباك مع معضلة التضخم الجامح، الذى يؤثر سلبًا على أهم روافد الناتج الإجمالى المتمثلة فى الاستهلاك العائلى، فضلًا عن تأثيره البالغ على عائدات التصدير التى تراجعت فى قطاع المواد البترولية على وجه الخصوص لأسباب مختلفة يعرضها التقرير، وذلك بالطبع إذا اعتبرنا أن الشح الدولارى والتضخم، هما عارضان لذات الداء المتمثّل فى العجز التوأم وضعف الإنتاجية.
التقرير كذلك يشير إلى أبرز القطاعات الاقتصادية التى شهدت تراجعًا فى إنتاجيتها خلال العام المالى المنصرم، وخلال الربع الأخير الذى يغطيه بشكل أساس. من ذلك بالطبع تراجع عائدات قناة السويس بما يزيد على 68% خلال الربع الرابع من العام المالى الماضى تحت وطأة هجمات الحوثى على السفن العابرة من مضيق باب المندب، وتراجع نشاط الاستخراجات النفطية تحت وطأة أزمة الشح الدولارى والتأخر عن سداد مستحقات الشركاء الأجانب. وهو تحليل يتضمّن تشخيصًا للمشكلة وفرص وبدائل العلاج، إذ تمت الإشارة إلى أن برنامج الإصلاح الذى تتبناه الدولة وما تبع قرارات 6 مارس النقدية والمالية وضع نهاية لأزمة الطاقة الآنية فى الأجل القصير، وكذلك أنار الطريق أمام صانع القرار لاتخاذ سياسات طاقية أكثر تنوّعًا واستدامة، وسياسات أخرى من شأنها تنوّع المصادر الدولارية، بالتأكيد على أهمية قطاعات خدمية أخرى بخلاف قناة السويس وفى مقدمتها قطاع السياحة، الذى كان مع قطاع الاتصالات من أفضل القطاعات نموًا وأكثرها مساهمة فى التخفيف من الآثار السلبية لتباطؤ قطاعات أخرى.
مما سبق أيضًا تتضّح مشكلة أخرى فى هيكل الصادرات المصرية، مدارها الاعتماد على تصدير المواد الخام على حساب المنتجات المصنّعة ذات القيمة المضافة، والتى تحفظ موارد الدولة الطبيعية الناضبة، وتحقق عائدًا أكبر على التصدير، واستخدامًا أعظم للمكوّن المحلى فى عناصر الإنتاج المختلفة (خاصة العمل ورأس المال).
• • •
كذلك اهتم التقرير بما سبق أن ذكرته الدكتورة رانيا المشاط لدى تناولها لمتغير الإنفاق الاستثمارى الحكومى، والذى خضع مؤخرًا لضوابط وسقوف تحول دون التوسّع فى وقت الانكماش، ودون مزاحمة هذا الإنفاق (على أهميته) لنشاط القطاع الخاص. مشاركة أكبر للقطاع الخاص فى الإنتاج تحول دون هذا الانحراف الكبير فى هيكل الناتج المحلى الإجمالى لصالح الاستهلاك على حساب التكوين الرأسمالى والصادرات. المواطن المصرى فى البيانات الاقتصادية هو فرد مستهلك ضعيف الإنتاجية، وإذ لا يواكب هذا النهم الاستهلاكى إنتاجية معتبرة لعناصر الإنتاج المحلية، فإن تعويض فجوة الطلب لا يكون إلا بالاعتماد المتزايد على الاستيراد من الخارج. زيادة الاعتماد على الاستيراد (خاصة من السلع تامة الصنع) لا يمكن ترجمته إلا بمزيد من العجز فى ميزان التجارة، الذى يعمّق من عجز ميزان المدفوعات، سيما إذا تم تحييد القروض من ميزان المعاملات الرأسمالية، تلك القروض يمكن أن تجعل ميزان المدفوعات فى حالة فائض مؤقت، لكن تبعاتها السلبية اللاحقة نعرفها جميعًا.
• • •
وبالطبع لأن هذا التقرير قد تم استحداثه مؤخرًا فهناك بعض الملاحظات التى أوقن أنه سيتم تلافيها فى الإصدارات التالية، ومنها بعض الملاحظات الشكلية والأخطاء المطبعية الطفيفة فى كتابة التواريخ فى النسخة العربية على سبيل المثال، وكذلك هناك بعض المؤشرات التى أرجو أن يتم دراستها فى ضوء محدداتها وقيودها المنهجية، مثل: مؤشر مديرى المشتريات، والذى أشرت غير مرة إلى كونه متحيزًا قطاعيًا وفتريًا (للفترة السابقة على المسح)، وأنه إن كان لا بد من الاحتكام إلى قراءاته، فالأولى أن تتم القراءة على عدد من الأشهر، وليس فى الشهر الأخير، حتى يتم الوقوف على الاتجاه العام. أقول ذلك بعد أن قام السيد رئيس الوزراء بالإشادة بقراءة أغسطس لهذا المؤشر باعتبارها دلالة على التوسّع والنمو، إذ انعكس اتجاه المؤشر لما فوق قيمته المحايدة (50 نقطة) لأول مرة منذ نوفمبر عام 2020، لكن المؤشر لم يستقر عند هذا المستوى لأكثر من قراءة واحدة! إذ إن شهر سبتمر الماضى قد شهد تراجعًا إلى 48,8 نقطة فى إشارة إلى رؤية انكماشية لمديرى المشتريات الذين أجرى عليهم المسح الخاص بالمؤشر.
• • •
الأداء النشط والإيجابى للدكتورة رانيا المشّاط فى وزارة التعاون الدولى، وتبنيها لبرنامج «نوفّى» الشهير، الذى أطلقته فى يوليو 2022 بغرض جذب التمويلات والاستثمارات لقائمة من المشروعات الخضراء فى قطاعات المياه والغذاء والطاقة، فضلًا عن أدائها المتميّز كنائب لمحافظ البنك المركزى وفى مناصبها الدولية الأخرى.. كل ذلك يعد بتطوّر ملحوظ فى إدارة دولاب العمل بوزارة التخطيط والتعاون الدولى. وقد كان من إرهاصات هذا التطور، التخارج الحكومى بنسبة 100% من شركة «تمويلى» للتمويل متناهى الصغر، علمًا بأن ملكية الشركة وإدارتها كانت تعود إلى الأذرع الاستثمارية لوزارة التخطيط، تلك التى لم يعد من المناسب أن تستمر تبعيتها حكومية، على حساب القطاع الخاص وتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر، التى جاءت من خلال تلك الصفقة عبر تحالف دولى لعدد من المستثمرين. أهمية التخارج لا تكمن فى تحصيل قيمة بيع الأصول فحسب، وإنما فى تحسين إدارة وغلة تلك الأصول. وعلى أية حال هذا النوع من الصفقات يفتح شهية المستثمرين لصفقات أكبر، ويرسل إشارات إيجابية للأسواق تفيد بعدم مزاحمة الدولة للقطاع الخاص، الأكفأ فى تخصيص وإدارة الموارد والاستثمارات.