شاهدنى جالسةً أمام الشاشةِ أكتبُ مقالًا. كنت أمرُّ بنزلةِ بردٍ والسعالُ يخنقنى، وعلبةُ المناديلِ الورقية تتهافت تحتَ يدى. قرأت فى نظرتِه تعبيرًا يتراوح ما بين الشفقةِ والسخرية. قالَ لى إنَّ الصحافيين توقَّفوا عن تدبيجِ مقالاتٍ من وحى الخاطر. هل أعيشُ فى العالم القديمِ ولم أنتبه للتقدّم الجارى على مرمَى حجرٍ منّى؟
زميلِى يسأل «تشات جى بى تى» عن أفضلِ طبيبٍ للأسنان فى المدينة، وعن المعنَى العميق لمصطلح «الفاشينستا»، وعن طريقة طبخ الكبة الموصلية أو المندى اليمنى. يعطيه فكرة ويطلب منه أن يصوغها مقالًا. وهو راضٍ ومسرورٌ بما يحصل عليه من خدمات. بلغ من رضاه أنَّه أطلق على ذلك التطبيق تسمية «الخادم الصغيرون».
لماذا لا يكون لى خادم، أيضًا، على الأقل حتى التعافى من هذه الوعكة العصيبة؟ طلبت من الذكاء الاصطناعى أن يكتب لى مقالة بحدود 400 كلمة عن تباشير الخريف واصفرار أوراق الشجر. وخلال دقيقة وصلنى المطلوب. نص مكتوب بعربية لا يمكننى أن أنكر أنها سليمة، وموثق بمعلومات معقولة، تهبّ منه نسمات بحر بعيد وغيوم لطيفة ورفرفة نوارس.
لم أصدّق عينىَّ وأنا خاشعة فى حرم التكنولوجيا. كدت أبعث للذكاء الاصطناعى رسالة شكر وامتنان ونخدمكم فى الأفراح. لكننى حين أعدت قراءة المقال المسلوق على عجل، خجلت أن أضع عليه توقيعى. ولم يكن ذلك من باب النزاهة والترفع عن التزوير، بل لأن أسلوب الذكاء الإلكترونى بلا روح.
وسألت نفسى: لو كنت المسئولة عن التحرير، هل أنشر مقالًا رومانسيًا حريريًا أملس مثل هذا؟ هناك دائمًا من اعتاد مراوغاتى. يحتاج القماش الخام كثيرًا من الصقل لكى يشفّ ويصبح حريرًا. سيكشف اللعبة قارئ لبيب ويستغرب الغش المفضوح. وقد يعذر ويمر على النص مرور الكرام، فى أفضل الأحوال، وفى أسوأها ينصرف دونما عودة.
تستهوينى الروبوتات التى تهبّ لنجدة ربة البيت، وتؤدى لها مختلف الخدمات. تغسل الثياب. تعصرها وتجففها. تكوى القمصان وتطويها. تتحرك بمفردها وتدور لتكنس غرفة المعيشة. تحضّر قهوة الصباح. تُحمّص الخبز. تقطعه شرائح بسكين كهربائية. تطحن حبات الهيل. تحيل كتف الخروف إلى هبيط. تقلى أصابع البطاطا بالهواء. تملّس الشعر الأهوج. تقفل باب الشقة وتسدل الستائر وتطفئ الأنوار عند النوم. توقظك وقتما تريد على صوت فيروز أو حسين نعمة. ليت هناك إنسانًا آليًا يلاعب الأحفاد ويدور بهم على ظهره «حمّال باشى».
هل أفرح إذا وضعنى الروبوت على الرف واقتنص وظيفتى؟ رغم الحمى والسعال وتدميع العينين كنت سعيدة بالتجربة. ذلك أن غرورى أوحى لى بأننى أستطيع، بقدراتى الطبيعية، أن أبزّ الذكاء الاصطناعى. ولا مانع عندى من دعوة السيد «تشات جى بى تى» وعائلته الكريمة إلى دورة تدريبية سريعة. ويُسمح باصطحاب الخادم الصغير.
إنعام كجه جى
جريدة الشرق الأوسط اللندنية