سفينة الصحراء - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سفينة الصحراء

نشر فى : الثلاثاء 7 نوفمبر 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 نوفمبر 2017 - 9:05 م

نزلت من سيارتى ومشيت نحو باب حديقتها لتفاجئنى بوجودها فى استقبالى. وقفت بشعرها الأبيض تتطاير بعض خصلاته مع نسمات خريفية. أشفقت على وقفتها فى انتظار وصولى. تعمدت ألا تطول مراسم الاستقبال فكان أن بادرت بخطوة خطوتها نحو ممشى فى الحديقة لا أعرف إلى أين يأخذنى. لحقت بى وهى تؤكد أن لا حاجة تدعونى للخوف عليها من لسعات برد الخريف. تجاوزتنى ومشت أمامى. لم تتوقف عن الكلام. جمل قصيرة وكلمات مختارة بعناية، كل حرف فيها فى مكانه. خطواتها، أمامى ثابتة وخطابها بدون أخطاء ومدرب وذاكرتها حاضرة. أرادت أن أراها على طبيعتها، سيدة كبيرة فى العمر بعقل ورشاقة وأناقة سيدة لبقة وذكية فى منتصف العمر.
***
أمسكت بذراعى تقودنى نحو المكان الذى اختارت أن أجلس فيه. حاولت كعادتى فى مثل هذه المواقف أن نتبادل الدور. أمسك أنا بذراعها لأقود. توقفت وأدارت وجهها ناحيتى لتقول، لعلك لا تذكر أننى كنت أقود وأنا أعلمك الرقص. كان حفل وداع رحلتنا الجامعية فى أسوان. تذكر أننا قضينا اليوم الأخير فى الرحلة نخمن ماهية المفاجأة التى وعدنا بها الدكتور إ. ص. المشرف على الرحلة. كم كانت سعادتنا وكم علا صراخنا فرحا حين زف إلينا خلال العشاء نبأ دعوتنا جميعا لحفل راقص. كان رجاؤه الوحيد أن نتجنب تناول مشروبات كحولية. رقصنا حتى الفجر ولم نشرب.
جلست حيث قررت مضيفتى أن أجلس. غابت عنى لمدة تقل عن الثانية وعادت لتجلس بجانبى. بعد قليل ظهر رجل أنيق يرتدى بذلة سوداء يحمل صينية من الفضة وضعها أمامنا. واستأذن قبل أن ينصرف. قلت كيف لا أذكر وقد كانت ليلة من أحلى ليالى العمر. قالت كنا فى السادسة عشر من عمرنا. هل تعلم أن لا أحد من مجموعتنا فشل. كدنا نحقق كل ما كنا نحلم بتحقيقه. تعرف طبعا أن ما لم يتحقق كان لأن ظروفا خارجية تدخلت عطلت مسيرتنا كأفراد ومسيرتنا كأمة.
***
دخلت علينا سيدة غطت الأقمشة بألوانها الخافتة كل جسمها العريض والممتلئ. اقتربت من حيث جلست فنهضت متوقعا تحية باليد لم تحدث. لم تمد يدها ومن حسن حظى لم تكن يدى امتدت. هذا على كل حال ما دربونى عليه وأنا صغير. أن لا أمد يدى لسيدة أحييها قبل أن تمد يدها. قامت صاحبتى بواجبات التعريف. ابنتى. طبعا لا تذكرها، أو لعلك لم تلتق بها قبلا. ولدت فى الخارج ونشأت وتلقت تعليمها فى مصر. لم أجد وجه شبه واحدا يربط الأم بابنتها. تأكدت حين تكلمت الابنة. الأم تتكلم عن الأيام الزهرية التى عشناها. تكلمت عن الأحلام الكبار. عن الحب وعواطف الصداقة والزمالة والقرابة. جرتنا إلى الحديث عن تاريخ الموسيقى والغناء الشعبى وحفلات الروك ثم إلى الاكتشافات التاريخية الكبرى لتعود بنا إلى عبقرية المصريين وطقوسهم فى الحكم وعلاقاتهم بآلهتهم.
الابنة تنظر إلى مسبحتها وتهز رأسها بما يعنى لنا أنها تشارك. لم تلتق عيوننا. أجادت غض البصر. لم أطق رؤية الأم تتحمل وحدها تنفيذ واجبات الضيافة فوجهت للابنة الصامتة سؤالا دون أن أكلف نفسى عناء النظر إليها عساها تهتم بوجودى فتنظر نحوى. انطلقت فى الكلام وليتها ما فعلت. رأيت بطرف عينى الأم نحيلة القوام تنكمش فى ركن الأريكة التى شاركتنى الجلوس عليها. فى عينها ما يشبه الخجل المشوب بالألم. لم يخرج حديث الابنة عن عذاب القبر ونار جهنم وفخامة البنايات الشاهقة والفخمة التى تحيط بالكعبة. وجدتها موسوعية المعلومات عن فتاوى الشيوخ، شيوخ السعودية وشيوخ مصر وشيخ المجموعة التى تشرف بعضويتها واجتماعاتها الأسبوعية. تسأله عن كل كبيرة وصغيرة فى حياتها الشخصية. بمعنى آخر هذا الشيخ يستطيع أن يغير خيارات شباب وبكلمات منه يقرر مصائر عائلات. تذكرت شيخا من نفس هذه العينة من الرجال عاش سنوات عديدة يصنع مصير الأمة المصرية. حديثه كالسحر يسلب الألباب. يهين سامعيه وهم راضون. يزيف التاريخ والدولة فيما يخصه مسلوبة الإرادة. هذا الرجل وغيره مئات بل ألوف تلقوا تعليما دينيا من نوع شديد التطرف وجمعوا ثروات هائلة. جاءتهم الأموال من الخارج دفعوا منها لمن يخصص من أصحاب العمارات طابقا كمسجد مزود بمكبر صوت يعمل طول اليوم. كلفتهم سلطات دينية أعلى منهم ببث أفكار متطرفة ونشر الخرافات وسير الرعب والترهيب فى بيوت مصر ومدارسها وقصور حكمها وجامعاتها. نجحوا. أفرزوا هذه السيدة التى جلست أمامى.
***
نهضت آسفا. تحركت نحو الباب الذى دخلت منه إلى هذه القاعة. أوقفتنى صاحبتى. قالت اتبعنى فستخرج من الباب الرئيس. وقفنا نتحدث فى الردهة حديث الشكر على كرم الضيافة والوعود بلقاءات أخرى. قطع الحديث موجة رنين أجراس وقرع أبواب وأصوات تستعجل فتح الباب الخارجى. انفتح الباب لتدخل منه مندفعة نحونا فتاة بشعر غجرى منتشر عشوائيا على كتفيها وصدرها. ترتدى بنطلون الجينز ممزقا فى أماكن كثيرة. بدا لى أن ما انكشف من ساقى الفتاة بفضل فراغات الجينز كان أكثر مما ستر. قامت جدتها بمهمة التعريف. سمعتها تقول هاى، سمعت عنك فى المكتب وترجمت لهم بعض كتاباتك. أنا شخصيا لا أتحمس دفاعا عن كثير من أفكارك، أنت وعديد من المفكرين لم تتوصلوا بعد لفهم ذهنية جيل الألفية. سوف نسقط قلاع التشدد وأنت تعرفها. لن نسمح لأحد يأتى من الخارج يشوه بأفكاره المتطرفة جيلنا كما شوه جيلا من قبلنا. سوف نتحالف مع شباب الصحراء لنصنع ثقافة تحترم عقولنا وحرياتنا. ناديناهم من التحرير. تأخروا وها نحن نراهم على متن سفينة تنقل البلاد والعباد من عصور تحجرت إلى عصر تغيير وتنوير.
أنا لست مثل أمى ولن أكون. ولست مثل جدتى ولن أكون.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي