(1)
كثيرون ربما لم يتوقفوا عند هذا الاسم كثيرًا لا فى حياته ولا بعد مماته! بطبيعته كان ميالًا للهدوء والعزلة والعزوف عن الشهرة والأضواء؛ يمارس تأمله الشفيف، ويمارس دوره كأستاذ جليل وأكاديمى من طراز فريد؛ يقرأ ويحاضر ويعلم ويترجم، ثم يرحل بهدوء شديد دون صخب أو ضجيج.
وأيا من كان وراء فكرة تخصيص محور كامل من محاور أنشطة معرض الكتاب المنتهية فعالياته يوم الأربعاء الماضى لسليمان العطار، فإنها كانت موفقة تمامًا وصائبة تمامًا، وجددت التذكير بقيمة هذا الرجل الإنسانية والعلمية والثقافية والمعرفية.. وقد كان لى شرف المشاركة فى الجلسة الأولى من جلسات هذا المحور بمشاركة أستاذى الجليل حسين حمودة، والصديقة الكريمة الدكتورة سحر فتحى بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة.
(2)
سليمان العطار (1945-2020) أستاذ أدب ومترجم ومثقف مصرى عظيم القيمة والشأن؛ كان أول من تصدى لترجمة عمل ماركيز الاستثنائى والفريد فى تاريخ الرواية العربية «مائة عام من العزلة» قبل أن يحصل ماركيز على جائزة نوبل فى الأدب عام 1982 وقبل سنوات قليلة من حصول نجيب محفوظ عليها. درس الطب والعلوم والزراعة، ثم قرر جادّا غير نادم ولا ناكث أن يهجر الدراسة العلمية التى لم تشبع ميوله ولا روحه الباحثة التواقة، وقرر أن يدرس الأدب والثقافة، فالتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، وتخرج فيها متفوقا ممتازا فتم تعيينه معيدا بالكلية ليبدأ رحلته، ومساره العلمى والتكوينى المنهجى.
تخصص العطار فى الثقافة الأندلسية، والأدب الأندلسى، وسافر إلى إسبانيا وتعلم اللغة الإسبانية وبرع فيها وأصبح أحد معابرنا الثقافية وجسورنا الحضارية والإنسانية من خلال هذه التجربة الفريدة فى تاريخ الحضارات، ذلك اللقاء الصادم الدامى الذى تحول إلى واحدة من أخصب تجارب التلاقح الثقافى والحضارى فى تاريخ البشرية.
بالإضافة إلى ممارسته التدريس الذى لم ينقطع عنه إلا اضطرارا أثناء سفره فى مهام رسمية كمستشار ثقافى لمصر فى شيلى، أو ما يشبه هذه المهام، تَوفَّر سليمان العطار على ترجمة أعمال منتقاة ومختارة من الإسبانية إلى العربية؛ ترجم لماركيز، وكاميلو خوسيه ثيلو، وغيرهما، كما ترجم عددًا من الكتب المهمة فى التاريخ والحضارة والأدب، من أهمها كتاب أميريكو كاسترو «حضارة الإسلام فى إسبانيا»، وكتاب ماجى آن بورز عن «الواقعية السحرية»..
لكن ربما كان أهم ما توفر عليه سليمان العطار، وقدمه لقراء العربية إكمال ترجمة أستاذه الجليل عبد العزيز الأهوانى لأول نص روائى حديث فى تاريخ الرواية؛ أقصد رواية ثربانتس «دون كيخوته دى لامانشا» أو «دون كيشوت» كما شهرت وذاعت بين الناطقين بالعربية.
(3)
جمع سليمان العطار أطراف مجالات وتخصصات قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الصعب الجمع بينها والتعمق فيها وإجادتها! فقد درس الأدب العربى، واللغة العربية، وتعمق فى فهم التراث العربى فى وحدته وشموله، وكذلك فى تنوعه وتعدد المجالات المعرفية والإنسانية وإدراك واع تماما للقنوات والروابط التى تصل هذه المجالات ببعضها البعض، وخص التاريخ الأندلسى والثقافة الأندلسية والتصوف بمزيد اهتمام وتعمق.
من ناحيةٍ أخرى، فقد تعلم الإسبانية واتصل اتصالًا وثيقًا بمظاهر هذه الثقافة العريقة، قديما وحديثا، نهل منها ونقل عنها وترجم إلى العربية ما رآه جديرًا بالترجمة إلى لغة الضاد، سواء من نصوص الأدب (الرواية أو القصة أو المسرحية) أو من نصوص فكرية وثقافية وتاريخية.. إلخ.
وهكذا، وبالتدريج، وعبر نشاط حقيقى وأصيل امتد لما يزيد على نصف القرن، تنامت شهرة سليمان العطار وحضوره فى أوساط الحياة الثقافية والفكرية والأدبية ليس فى مصر وحدها ولا العالم العربى وحده، بل جاوزتهما إلى البلدان الناطقة بالإسبانية.
هذه الشهرة وهذا الذيوع فى الأوساط الأكاديمية والثقافية والحضارية، لم يكن مردّها فقط أستاذيته الجامعية الوارفة فحسب، ولا نشاطه التدريسى الذى لم ينقطع عنه لحظة واحدة حتى وفاته؛ بل كانت تعود أيضًا إلى مظلة إنسانية ومعرفية وثقافية واسعة؛ راوحت بين المساهمة فى تكوين أجيال وأجيال من المثقفين المصريين والعرب الذين تتلمذوا على يديه، وبين كتاباتٍ ومؤلفات أصيلة أظنها ستبقى من بين الأهم والأجدر بالبقاء فى المكتبة العربية؛ خاصة فى مجالات التراث العربى، والأدب الأندلسى، والشعر العربى القديم، والتصوف، والثقافة الشعبية، وبين ترجماتٍ منتقاة لعيون وروائع الأدب الإسبانى، وأدب أمريكا اللاتينية؛ وقد كان العطار سبَّاقًا إلى التعريف بأبرزها والكتابة عنها ونقلها إلى العربية.
(4)
على سبيل المثال وليس الحصر، قدم سليمان العطار إلى المكتبة العربية الكتب التالية؛ «نشأة الموشحات الأندلسية»، و«الخيال والشعر فى تصوف الأندلس»، و«شعر الطبيعة فى الأدب الأندلسى»، و«الخيال عند محيى الدين بن عربى»، و«مقدمة لدراسة الأدب العربى»، و«الموتيف ونشأة الثقافة الشعبية»..
وبالتوازى مع هذا النشاط التأليفى المتأنى والرصين، كان العطار مبادرًا إلى إنجاز الترجمات السباقة والتعريف بقمم الأدب الناطق بالإسبانية؛ «مائة عام من العزلة»، و«خبر اختطاف» لماركيز، و«خلية النحل طرق ضالة» لكاميلو خوسيه ثيلا، وغيرها من الترجمات المعتبرة التى تشهد بعلمه، ووافر معرفته..