أول وظيفة.. صبى مكتبة - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 12 أبريل 2025 8:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أول وظيفة.. صبى مكتبة

نشر فى : الثلاثاء 8 أبريل 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 8 أبريل 2025 - 6:45 م

كانت تقع فى حى جاردن سيتى على طريقى الموصل إلى مكانى المفضل فى حدائق قصر النيل. أتوقف عندها فى ذهابى لأقرأ ما لم أكن انتهيت منه فى اليوم السابق وأتوقف عند العودة عسى أن تكون وصلت الدفعة الجديدة من الدوريات، أصعد مع ما اخترت منها إلى الطابق الثانى حيث مكتبة الموسيقى أقضى فيها وقتًا نوعيًا قبل أن أعود إلى بيتى. أتحدث هنا عن مكتبة مركز الاستعلامات الأمريكى.
•••
ذات يوم من أيام الصيف الفاصل بين نهاية عام دراسى وبداية عام آخر كنت أجلس فى ركنى المعتاد بالمكتبة عندما أقبل على ناحيتى صديق وهو قريب أيضا ويعمل بالمكتبة واستأذن فى الجلوس إلى جانبى. همس قرب أذنى بما معناه أن المستر ليتش مدير المكتبة يريد الاجتماع بى ليعرض علىَّ العمل فى المكتبة نصف وقت كما يعمل المتدربون. علمت أيضا أنه كان يتابعنى وما أقرأ والتزامى الحضور بانتظام. قال صديقى إنه مكلف بمهمة إقناعى بالفوائد التى يمكن أن تعود لى إذا قبلت العرض. وبالفعل أدى صديقى مهمته بمقدرة، خاصة وأنه يعرف أن المدير لن يمانع فى أن يترك لى تحديد مواعيد عملى بما يناسب ولا يتعارض مع جدول محاضرات الجامعة. شعرت يومها أننى أمام عرض يصعب أن أرفضه وبالفعل لم أرفضه ولم أندم على ما فعلت إلى يومى هذا.
•••
عملت فى المكتبة لأكثر من عامين مع أشخاص تعلمت معهم ومنهم أن أحب وأعاشر بدون اندفاع، أن أتعلم وأعلِم دون تفضل أو تكبر، أن أتوخى الصراحة فى تفاعلى الوظيفى كما الشخصى دون حرج أو تردد، أن أسأل وأسأل قبل أن أقترح جديدا أو أعدُل فى قديم، أن أعمل بكل إيمان فللعمل طقوس يجب أن تراعى ولمكانه فى النفس قدسية كما للمعابد.
•••
تفتح المكتبة أبوابها للجمهور فى الثامنة ولنا فى السابعة. نراه ويرانا عند وصولنا فباب مكتبه دائما مفتوح. يمر علينا بين الحين والآخر يعرض المساعدة والمشورة وليطمئن على جودة المنتج وعلى صحتنا ومعنوياتنا ويسألنا الرأى والاقتراحات فى سير العمل، ولا يتردد فى أن يتوقف أمام زميل من زملائه ويطلب منه إدخال تعديل على ربطة العنق وهى إجبارية، أو فى أن يتوقف أمام زائر أو زائرة يسأله أو يسألها عن مشكلات أو صعوبات فى التعامل مع الكتب والفهارس والعاملين. أتحدث عن المستر ليتش مدير المكتبة وعن أول درس مكثف فى الإدارة ولم أتجاوز العشرين من عمرى.
•••
قال عنه الزميل الضارب على الآلة الكاتبة إنه يمر عليه مرتين فى اليوم ليراجع معه عدد الكلمات التى «رقنها» خلال فترة بعينها ليقارنه بالرقم الذى حققه يوم تقدم لوظيفة راقن على الآلة الكاتبة. عقوبة التقصير أن يتخلف عن موعد المغادرة حتى يعوض ما فقدته المكتبة من المنتج المقرر. سمعنى أهمس بكلمة «وحشية»! فى شكل استفسار فقال لا تتسرع فى الحكم. «انتظر وسترى عجبا».
•••
مرت الشهور وانتهيت من امتحانات البكالوريوس وعندما ظهرت النتائج أقام المدير لى حفلاً خلال ربع الساعة المخصصة للراحة، وفى نهايته وأمام الزملاء عرض أن يحصل لى على منحة دراسية للحصول على شهادة الدكتوراه فى علوم التوثيق والمكتبات. شكرته واعتذرت فرغبتى كانت التقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين وفى الوقت نفسه التقدم لجامعة كولومبيا للحصول على منحة تغطى مصروفات الدراسة العليا فى العلوم السياسية. احترم الرجل رغبتى ورغبة مماثلة لزميلى الضارب على الآلة الكاتبة للحصول على الدكتوراه فى الأدب الإنجليزى. هذا الزميل كان فلتة فى الذكاء والصداقة وحسن التدبير مثله مثل كل بورسعيدى قابلته فى حياتى وآخرهم الناشط جورج إسحق.
•••
حكيت حكايتى مع المدير الأمريكى لما خلفته فى شخصيتى من آثار أفادتنى فى أداء وظائفى فى مواقع متعددة ومتباينة. أحكيها أيضا لأقارنها بتجربة أحمد الله على أنها لم تستمر طويلا. إذ استدعانى رئيس مباشر فى إحدى البعثات التى عملت بها فى أوائل سنين التحاقى بالخارجية، قال ما معناه أنه يراقب أدائى فى العمل منذ وصولى إلى هذه البعثة وقد «لاحظنا أنك تقضى فى السفارة وقتًا طويلاً وتنتج أكثر مما يجب وسيأتى يوم تخطئ خطأ جسيما بسبب كثرة إنتاجك فتعاقب».
•••
عشت سنوات بعد مغادرتى المكتبة أقارن بين أسلوب المدير الأمريكى فى التعامل مع مرءوسيه وأساليب رؤسائى المباشرين، مصريين كانوا أم غير مصريين. أعترف أننى وقد صرت مرارا رئيسا أو صار لى مرءوسين لم أفلح تماما فى أن أكون نسخة من مديرى الأول وإن نجحت فى أن أحتفظ بروحه وأسلوبه مصدرا لوحى فى الإدارة لازمنى ولم يتخل عنى.
•••
من النساء اللائى عملن معى فى المكتبة الأمريكية أذكر ثلاثة خلفن آثارا فى حياتى بشكل أو بآخر. أذكر العبقرية «ف» التى كانت مسئولة عن قسم المراجع فى المكتبة واعتبرت نفسها مسئولة أيضا عن نشاطى الأكاديمي. ساعدتنى خلال أوقات فراغها وفراغى لأقرأ أكثر فى علوم العلاقات الدولية. وصلت سمعتها العلمية والشخصية إلى خارج البلاد. لذلك لم أتفاجأ، وكنت فى الهند، عندما وصلنى خبر سفرها من مصر لتلتحق بمجموعة العمل الملحقة بأنشطة عالم الإسلاميات والمستشرق الأشهر سير هاميلتون الكسندر روسكين جيب فى جامعة هارفارد.
•••
أذكر أيضا «ب» السكرتيرة التنفيذية لمدير المكتبة. كانت أول سكرتيرة أتعرف عليها واستشف نوع وأعماق هذه العلاقة التى يجب أن تربط بين مدير وسكرتيرته. كثيرا ما شبهت هذه العلاقة بالعلاقة بين أم وابنها أو بين مربية وطفل تتعهد برعايته وإنضاجه وحمايته من «الأغيار». كانت بمشيتها فى صالات المكتبة، مشية الواثقة من مكانتها وفتنتها، تحمل رسالة أن الدنيا لا تعيش فقط بالكتب والمجلات العلمية، بل فيها ما يسر العين ويمتع النظر.
•••
كان يشاركنا المبنى قسم يهتم بشئون ثقافية مثل تبادل الأساتذة والطلبة وتتولى إدارته واحدة من أقدر وأذكى من عرفت من جنس المرأة. أدين لها بجهود طائلة ساهمت فى تعريفى بمستلزمات التقدم للحصول على منحة وبخاصة فى جامعات الدرجة الأولى. كنا نلتقى على فنجان القهوة الأمريكية فى فرص أتاحتها مهلة الاستراحة اليومية ونشأت بيننا علاقة مودة واحترام كالتى تقوم بين طالب وأستاذ لا يكبره بكثير.
ذات يوم اتصلت تقترح لقاء مطولا. التقينا بعد مواعيد العمل. قالت إنها تساعد شابا تخرج حديثا جدا وبتفوق ويريد المشورة فى الحصول على منحة من جامعة أمريكية. حصل على المنحة. يسأل أيضا وبخجل شديد إن كانت زميلتنا تستطيع ترشيح فتاة تقبل أن تسافر معه كزوجة قبل نهاية الصيف أى بعد شهر لا أكثر. طلبتنى وآخرين لنساعدها. قالت إنها قابلت عندى إحدى قريباتى الطالبة بكلية الآداب. هل نكلمها؟. أجبت على الفور ألن نكون ظالمين لو شجعناها على القبول؟ لم تختلف إجابات الآخرين عن إجابتى.
نسيت الموضوع وتركت المكتبة. درت فى الخارج دورة عمل ودراسة امتدت لأكثر من عشرين عاما. تصادف بعدها أن كنت أجلس مع زوجتى فى بهو فندق فى واشنطن أستعد لمداخلة ألقيها فى مؤتمر أكاديمى عندما سمعت من ينادي. التفت ناحية النداء لأراها وكأن الزمن لم يخصم ولا «أيوتا» واحدة من عفويتها وجاذبيتها وخفة ظلها. نهضت لأحييها وأعرفها بزوجتى ولنتفق على لقاء آخر بعد انتهاء واجبات جئنا من أجلها.
•••
سألتها عما تفعل بواشنطن. أجابت على سؤالى بحكاية طويلة ألخصها فى كلمات أرجو أن تكون قليلة. الخريج الذى طلب منها أن تخطب له فتاة تسافر معه فورا إلى أمريكا جاء إليها بعد أن وصل عدد الفتيات اللواتى رفضن السفر مع طالب إلى أى مكان إلى أكثر من عشر فتيات. جلس أمامها فى مقهى جروبى لا يعرف ماذا يقول غير التعبير عن اليأس. بدا أمامها مسكينا. نظرت طويلا فى عينيه قبل أن تباغته بالسؤال: فشلنا.. لماذا لا تتزوجنى؟. أجابها بدون تردد، أتقبلين الزواج من طالب لا يملك شيئا ولا حتى مستقبلا مضمونا؟ قالت له «نعم. كنت واثقة منذ أول لقاء بيننا أن مستقبلك فى يدى».
استطردت مضيفتى تقول «لن أطيل. تزوجنا وأنا أكبره بعشرة أعوام. استقلت من وظيفتى المرموقة وسافرنا إلى أمريكا ومعنا ابنى. ألحقته بمدرسة وألحقت «عريسى» بالجامعة والتحقت أنا بوظيفة ممتازة. مرت سنوات، كبر ابنى والتحق بالجامعة وتخرج زوجى من كلية الدراسات العليا وفتح مكتبا. خلال أعوام صار مليونيرا. تعددت علاقاته الغرامية. نسى ما فعلت لأجله. اجتمعت مع النساء اللائى أقام علاقات معهن ورفعنا جميعا قضية. حكيت للقاضى حكايتى كما حكيتها لك. وفى النهاية صدر الحكم بتعويضى بمبلغ يعادل نصف ثروته وينقلنى إلى مصاف المليونيرات».
•••
ساد الصمت لدقائق تعود بعدها فتستطرد قائلة «هذه حكايتى ولن أفك أسرك قبل أن تحكى لى حكايتك منذ ودعناك ليلة سفرك إلى الهند».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي