هدى بركات.. وفتنة الأسلوب المتأخر - سيد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 16 أبريل 2025 4:49 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

هدى بركات.. وفتنة الأسلوب المتأخر

نشر فى : الثلاثاء 8 أبريل 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 8 أبريل 2025 - 6:45 م

قلت للروائية اللبنانية الكبيرة هدى بركات وهى فى القاهرة خلال يناير الماضى أن روايتها الجديدة (هند أو أجمل امراة فى العالم) ذكرتنى بما كتبه المفكر إدوارد سعيد فى مقاله الشهير (الأسلوب المتأخر) الذى تحول فيما بعد إلى كتاب.
يتساءل سعيد: «إن كان المرء يزداد حكمة مع تقدمه فى السن؟ وهل هناك مؤهلات فريدة فى الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب التقدم فى العمر؟».
ووفقا لما كتب؛ فإن الأسلوب المتأخر يمتاز بقوة التعبير عن الخيبة واللذة دون أن يحول بينهما، فما يجمعهما هو ذاتية الفنان الناضجة والمجردة من العجرفة والتفخيم، والتى لا تخجل من كونها معرضة للخطأ ولا من الطمأنينة المتواضعة التى اكتسبتها نتيجة العمر والمنفى.
وبعد أن قرأت الرواية للمرة الثانية خلال إجازة العيد أدركت التحدى الأسلوبى الذى خاضته الكاتبة التى تعد من بين أبرز الروائيات فى عالمنا العربى. قلت لها إنها صارت مثل أم كلثوم حين لم تعد تغنى للجمهور الذى يجلس أمامها بولع لا يفنى لأن ما يعنيها أن تغنى لنفسها، وتفرح حين تتخطى اللحن لأنها تبتكر لحنها الخاص قبل أن تعود إليه من جديد.
ما أعرفه أن مهمة الكاتب الحقيقية أن يتمرد على الأساليب الراسخة فى كل مرة بحيث يخترع الأسلوب الذى يلائم موضوعه. ويجد اللغة أن ترسم الصلة مع أى قارئ. وهذه المرة لعبت بركات على التناقض بين ما تكشف الرواية من موت بطىء وما يعيشه القارئ من لاهث متسارع سعيًا لاكتشاف رحلة البطلة التى أعلنت موتها بوضوح، فما يتجلى أمامنا هو شىء ينتمى إلى ماضٍ نعرفه ولا نتوقع فصوله أبدًا.
خالفت بركات أسلوبها الذى ترسخ منذ روايتها البديعة (أهل الهوى) وكان يتسم بنزعة من الشاعرية وفضلت هذه المرة أن تكتب بأقصى قدر من التكثيف والتقشف وتجلت فى لغتها التى ظهرت على العصب تمامًا، جميع خبراتها الصحفية، فلا زخارف ولا بلاغة.
كتبت فصولها فى صورة مقطوعات قصيرة أقرب إلى شذرات تماثل الوخز، لأن ما يعنيها هو الأخبار عما تعانيه بطلتها (هنادى) التى كانت تفخر بجمالها ثم عزلتها الأم عن الجميع بعد أن أصيبت بمرض «لأكروميغاليا» الذى يتسبب بتضخم كبير فى الأطراف وبتشوه فى ملامح الوجه.
رأت الأم أن قبح ابنتها هو ثأر من جمال شقيقتها (هند) التى كانت أجمل امراة فى العالم لكنها توفيت بعد ولادة أختها ثم قررت الأم أن تكون هند قرينتها. أما الأب، فقد اختفى فى أحد أيام الحرب الأهلية، وظل مصيره مجهولا.
وعقب عزلة طويلة تحولها إلى ما يشبه الحشرة التى تلتهم الأوراق التى تصلها تنجح فى الهرب من منزل والدتها إلى بيت خالتها، ثم تغادر إلى فرنسا فى رحلة منفى وبعد تشرد طويل تقرر العودة إلى بلادها وتصل مع انفجار مرفأ بيروت الذى تسميه الرواية (العصف الربانى) حيث كان كل شىء يتفتت، وكما عايشت انتقالها من الجمال إلى القبح فإن سيرة مدينتها لا تختلف كثيرا عن سيرتها.
بدأت بركات سردها من المأزق الذى بلغته البطلة ثم أخذت القارئ فى رحلة التعرف على المسار الذى قاد إلى هذه النهاية، لكن دون الاعتماد على تقنية (فلاش باك) التى نعرفها، فالشخصية التى نتأملها متشظية ومنتهية الصلاحية، عاشت أكثر من انكسار وتبددت صلاحيتها تماما.
لفت نظرى نمط التكرار فى بداية الفصول وهو نمط بدا أقرب إلى المشافهة والرواية الشعبى ليزيد من الشعور بتكرار التجربة وتعميمها، ومع كل صفحة كانت تتشكل أمامنا البطلة على نحو يماثل ما نعرفه فى الفنون الجدارية، فكانت بركات تلملم من اللحظات التى تبعثرت ما يبرر هذا السعى.
لعبت هدى بركات بمهارة على حدود هذا الالتباس فى ظل غياب الأب، فأخرت رواية الأم عن موت ابنتها هند إلى ما بعد الصفحة المائة، كما لعبت على التشكك كمبرر دائم لإدارة التناقض، فتشككت فى المكان، فالبطلة ترجع إلى (حافة النهر الذى ليس نهرا) وبالمثل بين عالم بيروت وعالم باريس، وبين العلية وبين الغرفة التى حصل عليها فرانسو لأجلها من بلدية باريس.
تشككت كذلك الهويات التى اكتسبتها البطلة مع تواصل رحلتها ولم تكن على يقين من هويات من التقتهم فى الرحلة بداية من الجارة أم منصور مرورا بـ(نبيل) و(رشيد) وصديقها فرانسو وصديقتها الأفريقية التى سكنت معها والتبست عليها أيضا هويتها الجنسية.
ابتكرت هدى بطلة نافرة لا تحب الحنين ولا الذكريات، ارتضت بخرف الأم لأنه ساعدها على التخطى وصادقت الحيوانات لأنها وجدت الحب الذى لا يغير الناس دائما نحو الأفضل. وعاشت كما يليق بامرأة معطوبة تعرف أن الغربة عطب وإعاقة.
تخالف الرواية توقعات القارئ ولا تمنحه نفسها بسهولة، فهى مؤلمة وقاتمة تكشف هشاشة الضعف البشرى وتربط مآسى اللجوء بخذلان الأوطان، لكنها تعلمنا كيف نخترع الذكريات لكى نحّن إلى أوطاننا. وأجمل ما فى الرواية أنها تشبه هذه الأيام العصيبة، وتمثلها بأصدق ما يكون التمثيل.