كى لا يصبح الحوار ثرثرة - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كى لا يصبح الحوار ثرثرة

نشر فى : الخميس 8 مايو 2014 - 7:25 ص | آخر تحديث : الخميس 8 مايو 2014 - 7:25 ص

لا ينجح أى حوار فى أى مكان ما لم تسبقه خطوات تهيئ الظروف والمحاورين من أجل إنجاحه. فالحوار مثلا بين أصحاب المصالح الأنانية والانتماءات الزبونية لهذه الجهة أو تلك لا يمكن أن ينتج عنه أكثر من ثرثرة المجاملات.

طرح هذه المقدمة الحذرة مرتبط بما يجرى من جنون فى عالم اليوم الذى نعيش. فهناك جنون التعامل مع البيئة التى يتفاقم سنويا تدهورها بسبب الكثير من نشاطات الإنسان الخاطئة الملوثة للبيئة، والتى إن استمَّرت فى شكلها وعنفوانها الحالى فإن الوجود الإنسانى على هذه الأرض، ومعه وجود الكائنات الأخرى، سيصل إلى نهايته فى المستقبل المنظور.

•••

وهناك جنون القوة والعظمة، وما يتبعه من استعمار واحتلال وقمع للآخر ونهب لثرواته، والذى مارسته بعض الدول الاستعمارية الأوروبية فى الماضى باسم تمدين الآخر، وتمارسه أمريكا حاليا باسم نشر الديمقراطية، وستمارسه غدا دول كبيرة قوية من مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها باسم مبررات ثقافية أو دينية حسب الظروف والحاجة.

وهناك جنون النظام الرأسمالى العولمى الذى أدخل كل مجتمعات العالم فى دوامة الاستقطاب الحاد الظالم، بحيث تزداد الأقلية الغنية غنى وتزداد الأكثرية الفقيرة المسحوقة فقرا، وبحيث شيئا فشيئا يتضاءل وجود الطبقة المتوسطة التى على أكتافها قامت الحضارات عبر تاريخ الإنسانية الطويل.

وهناك جنون الثقافة العولمية المنتشرة فى العالم كانتشار النار فى الهشيم، والتى تقوم على الإغراء المجنون للبشرية كلها بممارسة الاستهلاك النَهم لكل شىء مادى ومعنوى والارتهان العبودى لمديونية طيلة الحياة من أجل دفع ثمن ذلك الاستهلاك العبثى المتصاعد إلى ما لا نهاية.

وهناك جنون صراعات الأديان والمذاهب والأعراق والقبائل التى ما إن تهدأ فى مكان حتى تشتعل فى أماكن أخرى، تؤججها أفكار دينية وإيديولوجية متزمتة مريضة ويقودها رجال سياسة ودين وعساكر وصناعة أسلحة من خلال إعلام سطحى انتهازى بلا روح وبلا قيم. وفى وطننا العربى يتمثل هذا الصراع المجنون فى مرض الانقسام الطائفى السنى – الشيعى المأساوى العبثى المهدد لمستقبل الإسلام ووجوده، وفى الصعود المذهل لمعتوهى الجهاد التكفيرى الذى يلغُ أصحابه فى دماء الأطفال والنساء والشيوخ ويحرقون الأخضر واليابس، كل ذلك باسم دين الحق والقسط والميزان والرحمة والغفران والتسامح.

•••

هناك وهناك من هلوسة الجنون وممارسة الجنون ما يملأ المجلدات، فى أغلب عالم اليوم وفى أكثر أرض العرب المستباحة المغلوبة على أمرها.

هذا الجنون له مفكروه وكتابه واعلاميُوه وممولوه وحماته، ولهم صوت ونشاط يملأ جنبات الأرض. ولأنهم أصحاب القوة والمكانة والوجاهة فإنهم يكونون غالبية من يدعون ليتصدروا موائد حوارات الثقافات والأديان والمذاهب والحضارات.

هنا نعاود طرح حذر المقدمة بشكل آخر: هل أن جمع من يخلقون ويفعلون وينشرون كل تلك الأنواع من الجنون مع القلة التى تحاول أن تنأى بنفسها عن الدخول فى حلقات ذلك الجنون، هل جمعهم حول طاولات الحوارات المختلفة سيؤدى إلى أكثر من حوار الطرشان الذى لن يكون أكثر من ثرثرة مجاملات وتمنيات وأحلام طفولية وانتهازية ما وراء الأقنعة؟

ما الدليل على ما نقول؟ الدليل هو أن وجود عشرات المراكز والمنابر والمؤسسات فى العالم كله، التى تدعو للحوار، لم ينجح عبر السنين، ولا قيد أنملة، فى منع أو تخفيف أو إيقاف عشرات الصراعات سواء فى الداخل أو الخارج، وبقيت أغلبية توصيات مؤتمرات الحوارات حبرا على ورق ومادة للمباهات.

ذلك أن ما تسميه تلك المراكز حوارا بين الثقافات والحضارات والأديان أو غيرها لم يتعدَّ أن يكون فى غالب الأحيان عبارة عن شعارات سياسية أو صور للعلاقات العامة أو أمنيات لأناس يجهلون الأسباب المعقَّدة لمشاكل وعثرات وجنون العصر الذى نعيش، وبالتالى يعتقدون أن الحلول هى فى توجيه دعوة وجلوس حول طاولة.

•••

دعنا نكون صريحين: لن تنجح الحوارات إلا بعد مواجهة ومعالجة ودحر الأفكار والممارسات المجنونة التى تملأ أرض وسماء وبحار هذا الكوكب. بعد أن تدحر المصالح التى وراء ذلك الجنون ويدحر أصحابها والمستفيدون منها، سيكون مفيدا عند ذاك الدخول فى حوارات بين عقلاء فى عالم عاقل من أجل التناغم والتعاضد بين مكونات البشرية.

ما تحتاجه البشرية والمجتمعات الآن هو الفعل الجماهيرى الواعى المستمر المتراكم المتصاعد لإزالة أسباب ولإيقاف فواجع وجرائم كل أنواع الجنون فى عالمنا المعاصر وذلك تمهيدا لانتقاله إلى عالم العقلانية والعدالة المطلوبتين لإنجاح أى حوار سواء بالنسبة للمجتمعات أو بالنسبة للعالم. لن يكون الأمر سهلا ولكنها الحقيقة التى يجب أن تواجه بلا لف أو دوران، فلقد تعب العالم من كثرة الثرثرة وقلّة الفعل.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات