اجتمع لرسول الله «صلى الله عليه وسلم» فى حجة الوداع ما لم يجتمع له من قبل، فنظر أمامه وعن يمينه ويساره فإذا أصحابه مد البصر فسعد بأن رأى ثمرة كفاحه وجهده.
اجتمعوا إليه طائعين محبين بعد أن عادوه وحاربوه طويلا وقال: استنصت الناس يا جرير، فأنصتت الدنيا كلها لكلمات النبى التى سيودع بها أصحابه والدنيا كلها بعد أن ملأها نورا وضياءً ورحمةً فقال لهم:ــ
اسمعوا قولى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا.
إلا أن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، فأسقط دماء وربا الجاهلية وأول ربا أسقطه ربا عمه العباس.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك فاحذروه على دينكم.
اتقوا الله فى النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن حقا ولهن عليكم حقا وشرح بعض هذه الحقوق.
أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشى مجدع، ما أقام فيكم كتاب الله.
أرقاءكم أرقاءكم، أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تعذبوهم.
لا يحل لا مرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه.
لا ترجعوا بعدى كفار يضرب بعضكم رقاب بعض.
تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا «كتاب الله وسنتى».
ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنكم ستسألون عنى فماذا أنتم قائلون، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والهتاف: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.. فاطمأن الحبيب إلى شهادة أصحابه فرفع أصبعه إلى السماء قائلا: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد.
هذه هى الوصية الجامعة التى ودع بها النبى محمد الدنيا كلها.. أما عيسى عليه السلام فتعد موعظة الجبل هى أعظم وأشمل وأجمل مواعظه وكأنه يودع حوارييه وأحبابه مثلما فعل الرسول فى خطبة الوداع.
وقد بدأ المسيح موعظة الجبل بالبشرى والتطويب لأصناف معينه عدها فى بداية موعظته منهم على سبيل المثال: طوبى للمساكين بالروح، طوبى للحزانى، طوبى للودعاء، طوبى للجياع والعطاشى إلى البر، وطوبى للرحماء، وطوبى لأنقياء القلب، طوبى للمطرودين من أجل البر.
ثم أردف قائلا: لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء بل لأكمل.
قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبا الحكم، وأما أنا فأقول: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم.
قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن، وأما أنا فأقول لكم إن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه.
سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء ولا بالأرض ولا بأورشليم وليكن كلامك: نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير.
سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء كله، ومن سخرك ميلا فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.
سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لأعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.
طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون.
أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح؟.
ترى لو عمل الناس بمثل هذه الوصايا الجامعة والمودعة هل يبقى شقى فى الأرض أو مظلوم أو محروم أو مضطهد، أو كانت هذه الصراعات المدمرة على الدنيا فأين نحن جميعا من وصايا ومواعظ محمد فى خطبة الوداع، والمسيح فى موعظة الجبل «عليهما السلام»؟.