على الرغم من بشاعة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة الفلسطينى، فإن طريقة إدارة إسرائيل لعدوانها، وطريقة إدارة المقاومة الفلسطينية للعدوان نتج عنها بصيص من الأمل فيما سيأتى به مستقبل الصراع مع إسرائيل. فقد أوجد العدوان الإسرائيلى ما أرها فرص يجب على العرب استغلالها إن أرادوا تغير موازين القوة فى صراعهم مع العدو التاريخى.
وأرصد هنا تغيرين مهمين يرتبطان بالولايات المتحدة، كما أشير إلى فرصة تبدو غائبة عن بعض صناع الرأى العربى.
النقطة الأولى تتعلق ببديهية الدعم الأمريكى المطلق لكل ما تقوم به إسرائيل. فقد أظهر العدوان بصيصا من الأمل فى إمكانية تغيير الموقف الأمريكى الرسمى، وتغيير نظرة الأمريكيين للصراع، والذى قد يكون من شأنه تغيير معادلة التأييد المطلق تجاه إسرائيل. فقد أظهر استطلاع للرأى أجراه «معهد بيو»، وهو أحد أهم المراكز المتخصصة والمعروف بجديته، أنه وعلى الرغم من الدعم الكبير بين صفوف الجمهوريين والديمقراطيين لإسرائيل، فإن الموقف يختلف بصورة كبيرة بين أوساط الشباب الأمريكى. لقد ألقى الشباب الأمريكى من الفئة العمرية (18 ــ 29) عاما باللوم على إسرائيل فى هذه الجولة من العدوان بنسبة 29%، فى حين ألقى فقط 21% منهم باللوم على تنظيم حماس. وأهمية هذه النسبة أن 19% فقط من الشعب الأمريكى يلقى باللوم على إسرائيل فى حين يلقى باللوم على حماس 40% منهم. ويعنى خروج الشباب عن النص الأمريكى وجود فرصة سياسية مهمة لدى الجانب العربى إن أحسن التخطيط لذلك وتوافرت النيات والإرادات الصادقة لضمان وقوف هذا الجيل الأمريكى الشاب فى جانب الحق العربى فى السنوات والعقود المقبلة. جيل الشباب الأمريكى لا يأخذ بجدية مقولات الإعلام الأمريكى التى يكررها مثل الببغاوات دون أى تمحيص على شاكلة «تطابق المصالح الأمريكية مع مصالح إسرائيل، أو أن لإسرائيل حقا شرعيا فى الدفاع عن النفس».
إلى جانب الشباب هناك نزعة بين الأقليات العرقية والدينية وبين الليبراليين الأمريكيين لعدم أخذ الادعاءات الإسرائيلية كحقائق لا تناقش ولا تفحص. فقد أظهر الاستطلاع السابق أيضا أن 22% من الأمريكيين البيض يرون أن إسرائيل تمادت فى استخدامها القوة ضد سكان قطاع غزة، فى الوقت نفسه ارتفعت النسبة إلى 36% بين السود ووصلت إلى 35% بين «الهيسبانك» المنحدرين من أصول إسبانية. ولو أخذنا فى الحسبان التزايد السريع فى أعداد هاتين الفئتين، الذى وصل معه نسبة السكان السود إلى 12.7% أو 40 مليون مواطن، ووصلت أعداد «الهيسبانك»، وأغلبهم من الكاثوليك إلى 16.5% أو 52 مليون أمريكى، لأدركنا وجود فرصة مستقبلية خاصة مع تزايد معدلات النمو السكانى بين الملونين واستمرار انخفاضها وسط البيض، وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة على السياسة الخارجية الأمريكية.
•••
ويرتبط بالنقطة السابقة تزايد مظاهر إعلان مشاهير أمريكيين معارضتهم للسياسات الإسرائيلية دون الخوف من استخدام تهمة «العداء للسامية» ضدهم. نجوم مثل سلمى حايك وشارون ستون يقاطعون شركات أمريكية تمول المستوطنات الإسرائيلية. دانى جلوفر وجين فوندا قاطعا مهرجان تورنتو السينمائى اعتراضا على تكريم الهرجان لمدينة تل أبيب. النجمة أيما تومسون قررت مقاطعة المسرح الإسرائيلى. وكذلك انضمت النجمة الشهيرة بينلوبى كروز والممثل خافيير بارديم لحملة تدين ممارسات إسرائيل فى قطاع غزة واعتبروها بمثابة «إبادة جماعية»، وطالبا أن يوقف الجيش الإسرائيلى إطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة وطالبوا برفع الحصار المفروض من أكثر من عقد من الزمان.
ونفس الأمر ينتقل ببطء إلى الإعلام الأمريكى، ورغم الموقف المخزى المؤيد للسياسات الإسرائيلية فى أغلبية الصحف والمحطات التليفزيونية، إلا أن هذا لم يمنع من نشر العديد من المقالات والتحليلات التى أنصفت الجانب الفلسطينى وعرضت لوحشة العدوان ومشاهد قتل الاطفال المدنيين والنساء. ولم تعد تهمة «العداء للسامية» بنفس قوتها أو ردعها كما كان فى السابق. وتؤدى وسائل الإعلام الاجتماعية مثل تويتر وفيسبوك خدمة كبيرة للجانب الفلسطينى من خلال حرية تداول الصور والمقاطع الحية للعدوان لحظة بلحظة بكل حرية ودون تدخل أى جهات رقابية.
ويرتبط بالنقطتين السابقتين ضرورة أخذ مبادرات عربية لتغيير الفهم الأمريكى لما يحدث فى منطقتنا. ويمكن فى هذا الإطار البدء بإطلاق خدمة مماثلة لخدمة مشروع ميمرى MEMRI، والذى يتخصص فى عرض وترجمة كل ما يسىء للعرب والفلسطينيين والمسلمين من مواد إعلامية، وتصريحات سياسية أو فضائح مجتمعية، وتوفيره بالمجان للمهتمين خاصة بين صانعى الرأى داخل الولايات المتحدة. ويمكن أن يأخذ المشروع المقترح على عاتقه ترجمة وعرض كل ما يخرج من إسرائيل من تصريحات سياسية وأكاديمية عنصرية قبيحة، أو ما يعرضه الإعلام المكتوب والمرئى والكتب المدرسية ويسىء للعرب وللإسلام، وعرض مظاهر التطرف المجتمعى داخل إسرائيل. بكل بساطة خدمة مماثلة لخدمة مشروع ميمرى.
•••
ولكى تكتمل منظومة التأثير يجب كذلك تأسيس مراكز بحثية متخصصة وجادة فى دراسة الشئون الأمريكية. ورغم تأكيد البعض أن هناك عدة مراكز للدراسات الأمريكية فى عدد من الدول العربية، فإن الواقع يؤكد عدم وجود أى تأثير حقيقى لهم على الداخل الأمريكى.
ويعد استمرار غياب وجود مراكز دراسات متخصصة فى الشئون الأمريكية ظاهرة غامضة لا يمكن فهمها، كون ذلك يمثل فجوة خطيرة لا تصب فى خدمة مصالحنا المباشرة. ويعتبر غياب وجود فرق شابة من الباحثين العرب، تنحصر مهمتهم الأساسية فى التخصص فقط فى الشئون الأمريكية، فراغا استراتيجيا خطيرا ندفع ثمنه كل يوم. ذلك على العكس من امتلاء واشنطن بمن يطلق عليهم خبراء وباحثين فى الشئون العربية، يتمتعون بنفوذ كبير فى تشكيل السياسات الأمريكية بما يدرسونه ويقدمونه فى صورة تقارير أو بدائل لسياسات تتعلق بالتعامل مع قضايا العرب والمنطقة لصانعى القرار الأمريكى، كما أنهم يساهمون فى تشكيل فهم الشعب الأمريكى لقضايانا من خلال ظهورهم المتكرر فى وسائل الإعلام.
يجب أن يكون هناك مراكز أبحاث عربية متخصصة تضم عشرات الباحثين والمتخصصين فى الشئون الأمريكية من المتفرغين، يمكن تجميعهم من جهات عديدة من الجامعات والمعاهد العربية أو من بين آلاف العرب ممن تلقوا تعليمهم فى الخارج. يتفرغ هؤلاء الباحثون بعد أن يتم تقسيمهم للتخصص فى عدد معين من الولايات الأمريكية الخمسين، ودراسة موضوعات أمريكية محددة مثل الأديان أو السينما والأقليات أو الإعلام أو التكنولوجيا أو الكونجرس. إلخ.
وينتظم هؤلاء الباحثون فى عملهم البحثى بصفة يومية مستقرة ودائمة، ويحتكون بالولايات التى سيتخصصون فيها (نعم يجب أن يكون هناك متخصصون فى ولاية كاليفورنيا أو ولاية أوكلاهوما!)، ويتواصلون مع جامع اتها، ويتعرفون على وسائل الإعلام بها، وبأهم شركاتها ومؤسستها وسياسيوها. وتتيح «مراكز الدراسات الأمريكية المقترحة» لباحثيها فرص السفر والمشاركة فى برامج دراسات فى جامعات تلك الولايات ومراكزها البحثية.
الكثيرون ينتظرون ويحلمون بتغيير جوهرى فى السياسة الخارجية الأمريكية من أجل فرض سلام عادل فى الشرق الأوسط! ومثل هذه الأحلام مجرد أوهام إن لم نأخذ المبادرة ونحاول أن نؤثر فى عملية صنع القرار الأمريكى بما يخدم قضايا الحق العربى والفلسطينى.