أحاديث الفتن وفضل الإمام على - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحاديث الفتن وفضل الإمام على

نشر فى : الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 11:35 م

نودى للصلاة من يوم الجمعة، واجتمع المصلون فى المسجد الكبير بالحى الهادئ، ولم يظهر الخطيب الذى كلفته وزارة الأوقاف ولا بديله المعروف، واضطر الجمع إلى اختيار أحدهم لإلقاء خطبة الجمعة، وبالتأكيد وقع الاختيار على واحد من الملتحين من مقصرى الجلباب، عذرهم لسطحية الاختيار أن الموقف لا يحتمل اختبار الناس لانتخاب أعلمهم وأنسبهم للخطابة والإمامة، فاحتكموا إلى الظاهر. وما إن صعد صاحبنا المنبر حتى هداه ضميره إلى إحياء فتنة نائمة منذ ألف ومائتى سنة، سُجن وعُزل وعُذب على إثرها نفر من المسلمين، ويا ليته بعثها تفنيدا ونقدا لنشأتها غير الضرورية وتبعاتها المهلكة، بل فعلها متحيزا إلى أحد طرفيها ومهاجما للطرف الآخر! فقد استغل وقت الخطبة التى وجد نفسه فجأة مطالبا بإلقائها بغير تحضير فى محاولة إقناع سكان الحى الهادئ وعامليه البسطاء بأن القرآن غير مخلوق!. محنة خلق القرآن ظهرت فى عهد الخليفة العباسى المعتزلى المأمون تقريبا عام 833 ميلادية، وانقسم حولها الناس بين مؤيد للقول بأن القرآن مخلوق وفى مقدمتهم الخليفة ذاته، وآخر يقطع بأنه قديم وأنه كلام الله وأن القول بكونه مخلوقا هو بدعة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل... وبعيدا عن حجج الطرفين والتى تستند إلى دلائل عقلية ونقلية مقنعة فقد كان من الممكن التعامل مع هذا الخلاف باعتباره تمرينا ذهنيا لطيفا، وفرعا من أصول علم الكلام الذى اشتهر به العرب، لكنه تحول إلى أزمة عنيفة وتشكيك فى العقيدة وتكفير وتنكيل، فصار مثالا تاريخيا قويا على تطرف وإرهاب فكرى غير محمود، وعلى تحول قضية هامشية فرعية لا أهمية لها لأى إنسان، إلى أزمة فى العقيدة والدين استمرت مشتعلة زهاء الثلاثة عقود، حتى بدأت خلافة المتوكل على الله!. ما أغنى رواد المساجد اليوم عن الانقسام حول تلك المسائل التى حيرت العلماء فى زمن نهضة ورخاء، فما أغنى العامة اليوم عن الخوض فيها وهم تحت ضغوط الفقر والجهل والمرض تسودهم أخلاق الزحام! وما انتفاع أخى الدنيا بالجدل فى أمور عميقة محيرة، وهم بالكاد يحسنون الحوار فى شئونهم العادية فتغلبهم الحمية وأخلاق الجاهلية من قريب!.
***
تذكرت تلك الواقعة وأنا أتابع سلسلة من المقالات الخفيفة لكاتب محترم، وقع اختياره أخيرا على قضية الفتنة الكبرى التى انقسم على أثرها المسلمون منذ فجر الإسلام، واستل قلمه الرشيق فى محاولة شديدة الجرأة لحسم تلك القضية التى أريق بسببها دماء زكية لآلاف من آل البيت والصحابة والتابعين وتابعيهم، ومازالت دماء الناس تراق بعواقبها منذ نهاية خلافة الصحابى الجليل عثمان بن عفان رضى الله عنه وحتى يومنا هذا!.
هذا النوع من الفتن والخلافات الحادة أعجز العلماء والفقهاء وأصحاب المذاهب وكبار المؤرخين طيلة أربعة عشرة قرنا، لكن أحدهم يظن أن مقالا أو بضعة مقالات يمكنها أن تحسمه وتنزل أطرافه منازلهم المستحقة، بل وتصف أقطابه بصفات شائعة فى كتابات دارجة، وتستخلص من تلك الصفات مبررات لاشتعال الحروب وتنصيب الخلفاء.
بالتأكيد لا أحط من قدر أحد أو من حظه فى الاجتهاد والتحليل، أو حاشانى أظن فى الأولين إعجازا لا يملك المعاصرون مفاتحه، فقد هيأ الله أسباب العلم للكافة، يؤتى الحكمة والهداية من يشاء من عباده. فقط أتمنى أن يتحلى أحدنا بالتواضع وهو ينشئ فى تناول هذا النوع من الخلافات، وألا يكتفى بما قرأه فى كتاب أو اثنين أو حتى حزمة من الكتب لينصب نفسه قاضيا فى مسألة معقدة. ومن باب التواضع أن تستهل مقالك بالقصور والجهل وتغليب الظن، تطعن فى نفسك وفى علمك كما كان يفعل أساطين العلم من قبلك. من باب التواضع أن تذكر للقارئ أنك واحد من عشرات الآلاف الذين درسوا الأمر، ومنهم من عايشه وعاصره. من باب التواضع أن تختم مقالك بدعوة القارئ إلى مطالعة مؤلفات أخرى قبل تكوين رأى حيال مسألة خطيرة، يمكن أن تعمق الفجوة بين المسلمين.
قرأت من حديث الفتنة فى كتابات قديمة مثل «الملل والنحل» للشهرستانى، و«المسالك والممالك» لابن حوقل، و«تاريخ الأمم والملوك» للطبرى، وفى كتابات المحدثين مثل «الفتنة الكبرى» لطه حسين، و«عبقرية الإمام على» للعقاد، وأخذنى كتاب «على إمام المتقين» لعبدالرحمن الشرقاوى والذى أصدره فى جزأين فكان من عجب أن أثار الكتاب ذاته فتنة صغرى! إذ غضب لعنوانه الإمام محمد الغزالى رحمه الله، فقد أراد أن يختص بإمامة المتقين سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما كان المؤلف ليجحد ذلك وهو المحب لرسول الله وآل بيته، لكن أحدا لا ينكر إمامة على عليه السلام لتابعيه من كبار الصحابة والتابعين المتقين، وذلك طوال سنوات غاب عنها رسول الله والخلفاء الثلاثة. توسط فى الصلح بين الأستاذ الشرقاوى والإمام الغزالى نفر من الناس، كان منهم أحد أعمدة جريدة الأخبار المنكر لذاته الراحل فى سكون المرحوم الأستاذ عبدالوارث الدسوقى، والذى كان أول راع لكتاباتى المتواضعة فى صفحة الرأى للشعب بجريدة الأخبار، يوم كنت طالبا بالمدرسة الثانوية، ولم اعرف مكانته وفضله المستحق بين أهل الصنعة إلا مصادفة بعد رحيله.
***
ترسخ فى يقينى انحياز لا علاقة له بانقسام المذاهب وتفسخ الأمم، لكننى أدركت مبكرا أنه من الخطأ أن نتعامل مع تلك الأمور بمنطق التعصب الكروى والانقسام بين الأهلى والزمالك، وأن ثمرة البحث فى التاريخ هى استخلاص العبر والحكم، ومعرفة الرجال بالحق المتبع، لا معرفة الحق بالرجال من أصحاب المقامات والمآثر. ترسخ فى يقينى أن الإمام على كان شخصا استثنائيا فى كل شىء، يثير فى نفوس المحيطين مشاعر الغيرة والحسد أكثر مما يثير الود والألفة. جمع من الفضائل منذ مولده وحتى استشهاده ما لم يجتمع لأحد من الصحابة وآل البيت. كان خصومه فى صفين يصلون خلفه إذا جن الليل وسكن القتال! استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين شهيرتين مرة فى سداد دينه يوم الهجرة إذ بات فى فراشه محتملا المخاطر، ومرة فى حماية المدينة من احتمال غدر المنافقين بالخوالف من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار يوم تبوك، وهى الغزوة الوحيدة التى لم يشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استرضاه بكونه منه كما كان هارون من موسى (إلا إنه لا نبى بعده). قتل يوم الخندق ــ وهو شاب صغير ــ عمرو بن ود من صناديد العرب (له سيرة تشبه عنترة بن شداد)، حمل باب خيبر واتخذه درعا وعجز عشرات الرجال عن حمله بعد انتهاء المعركة، تزوج من الزهراء وأنجب سبطى الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت ذريته على ظهر على، وضع أساس علم النحو، وأطلق من الحكم ما يصلح أساسا لكثير من العلوم ومنها علم الاقتصاد! وما ألبسك الله رداء علم قط إلا وقد آثرك به على غيرك.. بالتأكيد لن أحصى مآثر على ابن أبى طالب رضى الله عنه فى مجلدات ولو كان البحر مدادى، لكن القوة والشجاعة والإقدام والتقوى والعلم الواسع... هى بعض مما شهد له به خصومه قبل تابعيه وشيعته، لأن شرف الخصومة كانت ردء العرب دون السفه والفجور والابتذال.
وما أتيت على ذكر تلك الفضائل فى هذا السياق إلا ردا على من طاوعه قلمه فانتقص من قدر حكمته وهو القائل (صادقا) لولا التقوى لكنت أدهى الناس... وبعضهم رأى أن ولده الحسين ــ سيد شباب الجنة ــ أورد أهله موارد التهلكة، فانتصر بقلمه المسموم لموقف يزيد بن معاوية فى ذبح آل البيت، من أمرنا الله أن نصلى عليهم! ولا عجب أن انحاز أحدهم بعد حين لفرعون دون موسى وللنمرود دون إبراهيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الحق أحق أن يتبع، وما غياب القدوة فى زماننا هذا إلا عرض لتلبيس الحقوق.
ما أسهل أن يصنفك البعض على رأيك، وأن يرموك بالتشيع وربما بالكفر والعياذ بالله، وما أصعب أن يحتكم الناس إلى عقولهم وضمائرهم، وأن يذكروا لأصحاب الفضل أفضالهم وأنهم بعدُ بشر أمثالنا. يقول الإمام الشافعى إمام أهل السنة:
يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبُّكُمُ فَرضٌ مِنَ اللهِ فى القُرآنِ أَنزَلَهُ
يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ
أحدهم يسأل صاحب مقالات الفتن الأخيرة: وأين كان «على» وقت ترشيح أبى بكر وعمر وسعد بن عبادة للخلافة (عليهم جميعا رضوان الله)؟ كنت أتمنى لو أنه أخبر السائل أن عليا انشغل عن السقيفة بمهمة وفضل عظيمين آثره الله بهما، إذ انشغل بغسل وتجهيز ودفن الجسد الطاهر لرسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات