المفقود من تراث المطبخ المصرى - خالد عزب - بوابة الشروق
الجمعة 3 أكتوبر 2025 10:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

المفقود من تراث المطبخ المصرى

نشر فى : الأربعاء 1 أكتوبر 2025 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 أكتوبر 2025 - 9:26 م

عزيزى القارئ فى كل دولة هناك مطبخ وطنى له تراث، إلا مصر لديها مطبخ وطنى له تراث عريق، دون برامج أو خطط للحفاظ على هذا التراث، بل دون وظيفة لتنعكس بموارد ضخمة على الاقتصاد الوطنى، بل إنك تندهش من كلمة مفقود فى العنوان، حقيقة إن هناك نزيفًا مستمرًا فى تراث المطبخ المصرى، ففى كل عقد نفقد جانبا منه، يبرهن على هذا أنه إلى منتصف القرن العشرين، كان لدينا 300 نوع من الخبز المتبقى منها لا يتجاوز الـ 30 نوعًا، أى أننا فقدنا 90 % من تراث الخبز المصرى، دعنى عزيزى القارئ آخذك فى رحلة إلى تراث هذا المطبخ:
كان المصريون القدماء يعرفون كيف يهيئون الطعام بطريقة سائغة من قائمة النباتات والحيوانات المتوافرة آنذاك، وفى المنازل البسيطة، كان يوجد موقد يرتكز على صفين أو ثلاثة من الأحجار، واستخدمت بقايا النباتات المزروعة بعد تجفيفها، وأيضًا روث الحيوانات كوقود، استخدم هذا الموقد فى الطبخ، وفى منازل الأثرياء، كانت توجد أفران أسطوانية الشكل لها باب من أسفل لسحب الرماد الناتج عن الحريق، ومن أعلى يمكن إدخال المواد التى تستخدم فى الحريق، كما يوضع الوعاء لتسخينه، وكانوا يستخدمون الخشب أو الفحم الناتج عن الخشب، ولإشعال النار كانوا يستخدمون قضيب النار، وهو عبارة عن عصا جافة جدًّا يحركها الإنسان بسرعة فائقة على قطعة من الخشب، وهذه الطريقة وهذا الفرن كان يستخدم فى ريف دلتا مصر وصعيدها حتى وقت قريب، بل وما زال مستخدمًا فى بعض قرى الريف المصرى.
وتنضوى اللغة المصرية القديمة على أفعال محددة للتعبير عن «يشوى» و«يسلق» وكان الطباخون يستخدمون الدهن والزيت لعمل «اليخنى»، وهو أكلة كثيرة التوابل، وكان المصريون القدماء يتناولون وجبتين يوميًّا، الأولى فى الصباح عند الاستيقاظ، والثانية فى المساء عند هبوط الليل، وأثناء النهار كانوا يقضونه بقضم بعض اللقيمات، ويتناولون الطعام وهم جالسون، وباليدين من صينية موضوعة على منضدة صغيرة بقاعدة.
الخبز عند المصريين
تركز النظام الغذائى للمصرى القديم حول تناول الخبز والبيرة، فكان يتم تناولهم عند كل وجبة؛ حيث مثَّل الخبز مصدرا أساسيا للطاقة والبروتين.
استخدم المصرى القديم ثلاثة أنواع من الغلال لإعداد الخبز هى: الشعير، الذرة، القمح، وكان الأغنياء يخزنون مؤنهم من الحبوب بالقرب من منازلهم أو فوق سطوحها، وقد عُثر على العديد من أرغفة الخبز فى المقابر، وربما كان السبب فى ذلك هو إنتاج نوع جيد من الخبز الذى يقدم قربانًا للمتوفى، والعديد منها محفوظ فى متاحف العالم أحدها يعود إلى عصر ما قبل الأسرات عثر عليه فى مركز البدارى محافظة أسيوط بصعيد مصر، ويوجد فى المتحف الزراعى والمتحف المصرى بالقاهرة العديد من نماذج أرغفة الخبز المصرى.
كانت طريقة إعداد الخبز المتبعة منذ فترة مبكرة بطيئة وتتطلب عددًا كبيرًا من العمال الذين كان يجب إطعامهم إن لم يُدفع لهم أجر، فبعد تنقية الحبوب من كل الشوائب تسلم إلى جماعة يزيد عدد النساء فيها عن الرجال، ويعمل الرجال فى البداية يضعون قليلاً من الحبوب فى مدق من الحجر يتكون من إناء عميق توضع الحبوب بداخله، ويتولى بالتناوب شخصان أو ثلاثة أشخاص أقوياء طحنها بواسطة مدقة ثقيلة يبلغ طولها ذراعين، ثم تطورت فكرة المدق بعد ذلك إلى الطاحون الذى يتكون من جزأين توضع الحبوب فى الجزء العلوى منه، وعندما تضغط الطاحون على الحبوب تطرد الدقيق إلى الجزء الأسفل، فتقوم المغربلات بغربلة الدقيق المطحون لفصل النخالة عنه، ثم تكرر هذه العملية عدة مرات حتى يأخذ الدقيق النعومة المطلوبة، وأحيانًا ما تصور امرأة تقوم بوضع قوالب مخروطية الشكل فوق النار، بحيث تصل النيران إلى جوانب المخروط الداخلية، وتمسك بإحدى يديها مروحة حتى تزيد النيران اشتعالًا، وتحمى بيديها الأخرى عينيها، وعندما تصل الحرارة عند الدرجة المطلوبة يضعون هذه القوالب على لوحة ذات ثقوب مستديرة يملئونها بالعجين المختمر، ثم تغلق فتحة القالب العليا، وينتظرون حتى ينضج الخبز، ثم يسحبونه من الفرن ويرفعونه من القوالب ثم يعدونه؛ لأن المصريين يعدون كل شىء، وتحمل السلال الممتلئة بالخبز إلى أولئك السعداء الذين يأكلون الخبز، وهذه الطريقة فى صناعة الخبز كانت متابعة منذ عهد الدولة القديمة، لكنها بطيئة، ولكن تطورت لاحقًا بحيث أمكن خبز عدد وفير من أرغفة الخبز.
إن تعدد أشكال وأنواع الخبز فى مصر القديمة، جعلت منه حقلًا واسعًا للعديد من الدراسات، وإن كانت بعض أنواعه ما زالت تصنع فى ريف مصر بالدلتا وفى صعيد مصر، بل حتى إن بعض أسماء هذه الأنواع ما زالت تستخدم حتى اليوم، ومنها بات أو باتو، وهى أرغفة مستديرة الشكل، وفى المتحف المصرى على مائدة قرابين نفرو بتاح، نقشت أرغفة كبيرة مستديرة كتب عليها «بات وجات» أى «الخبز الطازج».
المشلتت
عرف قدماء المصريين الفطير المشلتت، فقد عثر على وصفة فى مقبرة الوزير رخمى رع من الأسرة الثامنة عشرة ــ وهو وزير من عهد الملك تحتمس الثالث وأمنحتب الثانى ــ لفطير يُسمى (المَلتوتْ) وهذه الكلمة تعنى (المُطبَقْ) أو (المُوَرَقْ) مما يعنى أنه كان يتكوّن من طبقاتٍ عديدة. ومع مرور الأيام بات الفطير جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية المصرية. وذلك بعد أن انتشر الفطير المشلتت فى قرى مصر ومدنها، لكنّه تطوّر تدريجيًّا حتى افتتحت حوانيت له عرفت بالفطاطرية.
وكان من عادة المصريين فى الأرياف والصعيد عمل الفطير المشلتت المالح وليس المُحلّى بالعسل أو السكر، وقد اعتادوا أن يقدموا إلى جانبه أصنافًا من الجبن القديم والمِشْ والعسل الأبيض والأسود بالطحينة. يخبز الفطير المشلتت بالسمن البلدى، ومن هنا تأتى رائحته الذكية النفاذة.
يذكر الكاتب محمد جميل أن القاهريين عرفوا قديمًا عطفة صغيرة عُرفت باسم «باب الغدر»، وعلى الرغم من غرابة الاسم، فإن هذه العطفة كانت تمثل مدينة الفطير فى القاهرة، وينقل عن تحقيق مثير نشرته مجلة الدنيا المصورة التابعة لدار الهلال بتاريخ 17 أبريل 1930، فقد عرفت هذه العطفة فى حى الحسينية نشاطًا غير عادى منذ باكورة الصباح. ففى الساعة السادسة من كل صباح فى مختلف الأزقة والحوارى والميادين، كان البائعون يرتصّون على صندوق خشبى وأمامهم ألواح من الصاج وقد ارتصت فوقها الفطائر المستديرة وأوعية السكر الناعم والزيت، واعتاد أن يجلس أمامهم مجموعة من العمال، لتناول تلك الفطائر الشهية الغارقة فى السكر والزيت حتى تعينهم على قضاء أشغالهم اليومية.
الفول:
يعد الفول من أهم البقول التى عرفها قدماء المصريون منذ عصر الأسرات الأولى، وعثر «شفينفورت» على بذوره فى أحد قبور الأسرة الثانية عشرة وفى طيبة من عصر الدولة الحديثة، وعثر على بذور الفول فى قبور بسقارة، وكوم أوشيم من العصر اليونانى الرومانى، وهى محفوظة فى المتحف الزراعى بالقاهرة.
الفول المدمس هو طعام محبوب ولون مصرى أصيل للطعام، وكان قدماء المصريون يضعونه فى قدور بها ماء، ثم توضع هذه القدور فى رماد الفرن، وتظل به مدة إلى أن ينضج، ثم يؤكل مدمسًا، والمكان الذى يسوى فيه الفول يعرف لدى المصريين بالمستوقد، أما كلمة مدمس، فهى تشير إلى الطريقة التى ينضج بها الفول، وهى دفنه فى الوقود والرماد، فالفول المدمس تعنى بالمصرية القديمة «الفول المدفون» وأصلها «تمس» وحرفت بالعربية إلى مدمس.
وكان عامة المصريون فى العصور القديمة يأكلون الفول مدمسًا، بينما كان الكهنة يكرهونه، ولعل السبب فى ذلك أنه كان يسمن الأجسام، بينما هم كانوا يتوخون النحافة والزهد، ليتفرغوا للدرس والتعمق فى الدين.
الفلافل
أعد المصرى القديم الفلافل من نبات الفول، ونرى فى أحد المشاهد المصرية القديمة صنع أربع فطائر من الفول، مزجت عجينتها بالماء فى حوض، ويلحظ أن هذه العجينة قد أخذت من الحوض وقطعت إلى أجزاء فى هيئة أقماع، وذلك بدحرجتها على لوح، ثم إعطاؤها الشكل النهائى باليد، ولابد أن هذه الفطائر كانت تسوى على النار. كما صنع المصريون القدماء من الفول «البصارة» المستخدمة حتى اليوم، وعرفت فى المصرية القديمة «بسى. أورو» أى فول مطبوخ.
إن بناء أرشيف قوى للمطبخ المصرى وتبنى برامج لترويجه ستجعل منه علامة من علامات مصر التراثية والاقتصادية، حيث إن المطاعم التى ستقدمه فى أى دولة ستكون فى حاجة لليد العاملة فى مصر، كما سيكون أداة لتصدير خاماته المصرية، وسيجذب السياح لتناوله، ومن الغريب أننا لم نسجل أى من الأكلات المصرية فى قائمة التراث اللامادى العالمى فى اليونسكو ولا حتى الملوخية ولا حتى الكشرى.

 

بائع الفول المدمس في القاهرة، ومن الملفت أنه يبيعه في قدر من الفخار وهو ما درج عليه في تسوية الفول منذ العصور المصرية القديمة إلى نهاية القرن 19 م.
خالد عزب  مشرف علي برنامج ذاكرة مصر المعاصرة
التعليقات