حاسة التذوق.. زمان والآن - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حاسة التذوق.. زمان والآن

نشر فى : الثلاثاء 8 ديسمبر 2015 - 11:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 8 ديسمبر 2015 - 11:25 م
كثيرا ما أثار فضولى طفل فى مرحلة الزحف على أربع يرفض بعناد وصراخ تناول «أكلة» بعينها، أو يسعد وتبرق عيناه مع أكلة أخرى. لم أصدق أنه يولد ومعه حب وكره لأشياء وأشخاص، ولم أصدق فى الوقت نفسه أنه خلال الأسابيع وربما الأيام القليلة التى قضاها يجرب «أكلات» غير حليب الأم قد اكتسب القدرة على التمييز بين أكلة وأخرى، واكتسب الإرادة الكافية ليتمرد على أكلة بعينها رغم الجوع «الكافر» الذى لا يكف عن الإعلان عنه.
***
أشبع بعض فضولى مقال فى العدد الأخير من مجلة ناشيونال جيوجرافيك. شدنى إلى قراءة المجلة مبكرا عن الموعد الذى اعتدت قراءتها فيه شهريا، غلافها وعليه صورة العذراء مريم، وسطور تصفها بأنها المرأة الأقوى فى العالم. اكتشفت أيضا أن فى المجلة مقالا آخر، بعنوان لا يقل إثارة، وهو «علم اللذيذ» Science of the delicious، وموضوعه حاسة التذوق عند الإنسان. ينقل المقال عن المركز الكيماوى لدراسة الحواس فى فيلادلفيا معلومات من فيديو يصور طفلا يقدمون له طعاما حلو المذاق فإذا بوجه الطفل يتبدل وتملأه السعادة وشفتاه تتلمظان فى انتظار ملعقة أخرى منه، ثم يقدمون له أكلة المكون الرئيسى فيها نبات البروكولى فإذا بالوجه يكتئب وبالفم يصدر صراخا، وبيديه تمتد إلى المائدة التى يجلس أمامها على كرسيه العالى يحاول قلبها بما عليها.
تعلمت الكثير من تفاصيل وردت فى المقال، لم أكن اعرف أننا كبشر ورثنا «كراهية» تناول نباتات وثمار معينة لأنها بطبيعتها شديدة المرارة بحكم انتمائها إلى فصائل نباتية سامة، وأن القليل من هذه السموم موجود فى نباتات وثمار معينة لمقاومة الضرر الناتج عن أكلات أخرى فاسدة أو غنية بالسموم الفتاكة. لم أكن أعرف أيضا أنه فى أقل من الثانية تسلك عملية التذوق ست خطوات قبل أن تصدر إشارة إلى المخ، وعلى ضوء هذه الإشارة إما أن نبتلع ما دخل أفواهنا من طعام أو نقذف به خارجها.
عرفت كذلك ان أرسطو تعرف على سبع مذاقات Tastes، هى Astrengent وأحد معانيها القوة، Pungent أى الحاد، Harsh بمعنى القسوة، وSour أى الحمضى، وSalty المالح، Sweet الحلو. عرفت أيضا ان العلماء اكتشفوا فيما بعد ان التذوق يتم من خلال مستقبلات receptors بعضها على اللسان وبعضها فى البنكرياس والرئتين والأمعاء، وهو ما يفسر أن الإنسان إذا شم رائحة غير مرغوبة فى طعام قدم له، أسرعت الرئتان بإرسال رسالة تحذير إلى مراكز المخ التى تسرع بإصدار الأمر بطرد الطعام أو رفضه. بأن يسعل الإنسان مرارا. وهو ما يفسر أيضا حقيقة أنه إذا سد الإنسان أنفه وكتم حاسة الشم ووضعنا فى فمه طعام برائحة الفانيلا، فإنه لن يتذوق شيئا لأن الفانيلا رائحة فقط، ولا طعم لها.
* * *
كانت لنا صديقة تحب الأكل بمختلف أنواعه، تأكل بشراهة تحسد عليها وفى الوقت نفسه نحمدها فقد كان سلوكها على المائدة دعاية طيبة لما نقدمه من طعام لضيوفنا. مرت السنين ثم العقود، لنكتشف على لسانها أنها ولدت فاقدة لحاسة التذوق. لم أدرك أنا شخصيا فى وقت مبكر أن مزج أكلات متعددة فى صحن واحد دليل مؤكد على ان الضيف أو الزبون لا يتذوق ولا يميز بين أكلة وأخرى فضلا عن أنه إهانة مباشرة لربة البيت التى بذلت الجهد لتطبخ أكلات متميزة طعما ولونا وتزويقا. نشأت فى بيت كنا مجبرين على إبداء الرأى فى كل أكلة على حدة. على كل حال لم يكن تقليد بوفيهات الفنادق معمولا به أو حتى مسموحا به فى بيوتنا.
* * *
أما وقد بدأت نهاية تقليد كان سائدا فى الطبقات الوسطى وهو اجتماع جميع أفراد العائلة على مائدة غذاء أو عشاء، تماما وقد انقضى العمل بتقليد كان معمولا به فى الطبقات الشعبية باجتماع معظم أفراد العائلة على «الطبلية»، والجلوس إليها بانحراف قليل لتتسع للجميع، ففى ظنى أن تقليدا جديدا بدأ العمل به وهو اجتماع العائلة، أو من وجد من أفرادها فى المنزل، على «كنبة» وأخواتها وفى يد كل فرد من العائلة هاتفه الذكى والأيباد وإلى جانبه صحن طعام .لا أحد من الحاضرين مهتم بما فى صحنه ولا بطعمه أو رائحته.
أحن، مثل غيرى من شركاء العمر، إلى أشياء كثيرة. أحن إلى أكلات معينة طعمها ورائحتها لا تغادران ولا تنسيان. أحن إلى صحن يحمل قطعا من قلب مشوى نلتهمها ونحن نقطع شوارع وسط البلد فى سنتياجو عاصمة شيلى. أحن إلى كوز الذرة المسلوقة وهى تقطر زبدة فى انتظار حافلة فى مدينة من مدن الوسط الأمريكى. أحن إلى كوز الذرة المشوية على كورنيش النيل نراقب الاحتفالات بعروس النيل ومركبها تمخر مياه النهر «الخالد» وسط عشرات من القوارب الصغيرة ومراكب الرقص والغناء. أحن أيضا إلى فطائر السمبوسك الهندية الحارة نأكلها حارقة فى أزقة دلهى القديمة، وبعدها ندلف إلى مطعم قذر يقدم وجبة الدجاج التاندورى لم استمتع بمثلها طعما ورائحة وصحبة وثمنا منذ أن تركت الهند.
هذه وغيرها كانت الأكلات الجاهزة فى عصر ما قبل الماكدونالد، عصر لم توجد فيه شركات متعددة الجنسية وظيفتها تحسين مذاق الأطعمة بمواد اصطناعية الشكل والمحتوى والطعم. عصر يدفعونا فيه إلى بلع الطعام قبل مضغه، وقوفا أحيانا أو راكضين فى الشارع، وفى أحسن الأحوال، لا أحد يطلب منا بعد تناول الطعام رأينا فى مذاقه. نـأكل بلا تفكير ولا كلام، نبلع الأكل ونحن مغيبيون عن الوعى فوق كنبة وإلى جانبنا صحن يحمل ما يسد الرمق لا أكثر.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي