يكره الأمريكيون المركز الثانى ولا يقبلون إلا بالمركز الأول، وتُطعم الثقافة الأمريكية هذا المفهوم. وكان من الذكاء أن يستعير الرئيس دونالد ترامب عبارة «أمريكا أولا» ويمنحها رحيقا ترامبيا خاصا به مما جعلها عنصرا مهما ساهم فى انتخابه قبل أكثر من ثلاث سنوات.
ومثل الصعود الأمريكى للمركز الأول عالميا فى عدد الإصابات بفيروس كورونا صدمة واسعة، أدت لأن تسخر هيلارى كلينتون من ترامب بالقول «لقد أوفى بوعده: أمريكا أولا» فى إشارة لعدد الإصابات والوفيات. ودفع ذلك لطرح سؤال واجب حول إذا ما كانت أمريكا قادرة على قيادة العالم فى ظل الصعود الصينى السريع والحتمى.
***
لكن كيف وصلت أمريكا لهذه الدرجة من الشك الذاتى فى قدرتها والنظر بقلق للصين؟ لا توجد إجابة نموذجية على هذا السؤال الذى يشغل أذهان علماء السياسة وخبراء الاقتصاد ويربك رؤية المؤرخين.
بداية منطقية للفهم تتمثل فى مقارنة الدولتين من عدة نقاط أساسية، منها أن مقابل كل مواطن أمريكى واحد يوجد أربعة ونصف مواطنين صينيين، إذ اقترب عدد سكان أمريكا من 330 مليون نسمة (4.3% من سكان العالم)، واقتربت الصين من 1.4 مليار شخص (18% من سكان العالم)، وبلغ حجم الاقتصاد الأمريكى العام الماضى 21.4 تريليون دولار فى حين بلغ نظيره الصينى 14.2 تريليون دولار، وبلغ متوسط دخل المواطن الأمريكى من الناتج القومى 64 ألف دولار، وبلغ مثيله الصينى 9700 دولار.
والعلاقة بين الدولتين كثيفة وشديدة التعقيد، وتظهر كثافة العلاقات بين الدولتين فى أكثر من 80 رحلة طيران يومية مباشرة بلا توقف بين المدن الرئيسية فى الدولتين، كما يوجد أربعة ملايين مواطن أمريكى أصولهم صينية، ويدرس فى الجامعات الأمريكية 360 ألف طالب أكثر من نصفهم طلبة ماجستير ودكتوراه يدرسون موضوعات العلوم التقليدية مثل الأحياء والفيزياء والكيمياء، ويدرسون أيضا العلوم الحديثة مثل الكيمياء الحيوية والفيزياء العضوية، والخلايا والاستنساخ، هذا بالإضافة لموضوعات التكنولوجيا والكمبيوتر والرياضيات. أما حجم التجارة بينهما فقد بلغ العام الماضى 559 مليار دولار منها 452 مليار صادرات صينية مقابل 107 مليارات صادرات أمريكية.
***
مثّل عام 2001 عاما فارقا فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، فى الوقت الذى عرفت فيه أمريكا هجمات 11 سبتمبر.
دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال الصين رخص الأيدى العاملة الماهرة والضخمة فى جذب ملايين المستثمرين، ودفع ذلك لتنطلق الصين وتنجح فى تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال العشرين عاما الماضية. على النقيض تورطت أمريكا فى حربها العالمية ضد الإرهاب والذى جرها لحربين مكلفتين فى أفغانستان والعراق لم تخرج منهما حتى اليوم. وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعتى براون وبوسطن الأمريكيتين، إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات 11 سبتمبر وحتى نهاية العام المالى 2020 إلى 6.4 تريليون دولار، ناهيك عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء. ولم تعرف الصين التورط فى أى نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودى مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى استراتيجية توسع فى بحر الصين الجنوبى مما أجج خلافات على الحدود البحرية مع أندونيسيا والفلبين وفيتنام.
***
تعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن أمريكا، الفكرة والحدوتة، عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة الأمريكيين أن العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم.
لكن دفعت سياسات ترامب لزيادة مخاوف المدارس الفكرية الأمريكية من قرب زمن الأفول الأمريكى. وعلى الرغم من ذلك يؤمن الكثيرون أن إزاحة أمريكا من على قمة هرم قيادة العالم لا يزال بعيدا، استشهادا بأن العالم يحيا بالصورة والطريقة التى يختارها العقل والذوق الأمريكى من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة من الآيفون وتويتر إلى الفيسبوك وجوجل، ومن أمازون إلى مايكروسوفت ومرورا باليوتيوب وإنستجرام. وترى كذلك أن طريقة الحياة الأمريكية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية، ناهيك عن السينما واللغة الإنجليزية وسحرها حول العالم، ومقارنة باللغة المهددة لعرشها، وهى اللغة الصينية.
وتؤمن هذه المدرسة بغياب أى خطر حقيقى على القيادة الأمريكية، ويدعم ذلك احتفاظ الجامعات الأمريكية بمسافة طويلة جدا تبعدها عن أى منافسة حقيقية مع أى من نظيراتها حول العالم، وطبقا لترتيب أفضل جامعات العالم الذى تجريه جامعة شنغهاى الصينية، كان نصيب الولايات المتحدة 17 من بين أهم 20 جامعة حول العالم، فى تصنيف عام 2019.
***
قبل أيام قالت الوكالة المعنية بتسجيل براءات الاختراع والتابعة للأمم المتحدة إن الصين هى أكبر مصدر لطلبات تسجيل البراءات فى العالم فى 2019، مزيحة بذلك الولايات المتحدة عن عرش ظلت متربعة عليه منذ إقامة تلك المنظومة قبل أكثر من 40 عاما. ويعد ذلك سببا قويا للقلق الأمريكى، حيث تتعلق اللعبة الكبرى بين الدولتين «بمعركة السيادة الرقمية» ودفع تعقد صناعة التكنولوجيا لتعاون الطرفين فى الكثير من المجالات، بل دفع كذلك لاعتمادهما على البعض بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال يُكتب على تليفونات شركة آبل الأمريكية عبارة «صُمم فى كاليفورنيا، وجُمع فى الصين»، ولهذا السبب لن نرى صراعا بل سباقا إلى أن تتغير طبيعة المصممين والمجمعين.
وعلى الرغم من تأكيد مؤسسة جولدمان ساكس أن الاقتصاد الصينى سيحل محل الأمريكى كأكبر اقتصاديات العالم عام 2027، فإن هذا لن يعنى الكثير إلا إذا منح النظام الصينى الثقة لنفسه وسمح لشعبه باستخدام ما هو ممنوع هناك حاليا مثل تطبيق فيسبوك وتويتر، أو قراءة نيويورك تايمز وأخبار وكالة رويترز، وبدون ذلك الانفتاح الضرورى لن تستطيع الصين منازعة أمريكا فى ريادتها للعالم حتى لو وصلت الصين لرقم واحد فى الاقتصاد أو براءات الاختراعات.