تشققت فى الكيان الأوروبى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تشققت فى الكيان الأوروبى

نشر فى : الخميس 9 يونيو 2011 - 9:20 ص | آخر تحديث : الخميس 9 يونيو 2011 - 9:20 ص

 كنا، قبل عقد أو عقدين، شهودا على أوروبا الموحدة وهى تتوسع، وأخشى أن نكون الآن شهودا عليها وهى تنكمش. تابعناها تنشأ ولم يتجاوز عدد مؤسسيها ست دول وتابعناها وهى تتعمق رأسيا تقيم مؤسسات قوية ويدعم بعضها البعض الآخر ثم رأيناها تتوسع أفقيا مساحة وسكانا ودولا حتى بلغ عدد أعضائها سبعة وعشرين. الآن نتأملها وهى تنكمش قيما ورسالة واقتصادا ونفوذا دوليا. نتأمل خوفها على هويتها وترددها فى استكمال مسارها الاندماجى وانقلابها على أحلام اندماجها ووحدتها.

مرت عشرون سنة على سقوط حائط برلين. وقتها كان الظن لدينا والحلم لديهم أن عشرين عاما ستكون فترة كافية ليكتمل البناء الأوروبى الموحد. وخلال هذه الفترة وقعت اصلاحات مؤسسية وتم توقيع اتفاقية لشبونة التى صيغت وأقرت لتكون الجسر الذى تعبر منه أوروبا إلى القرن الحادى والعشرين. ورغم ذلك توقف البناء الأوروبى بل انتكست مسارات وظهرت علامات تعب وإنهاك. كنا شهودا بل لعلنا كنا أقرب الشهود فبحكم طبيعة الجوار الجغرافى والتقارب الحضارى ونسائم الربيع العربى، كنا نراقب المدى الذى يمكن أن تصل إليه الوحدة الأوروبية فى التأثير على مسيرة ربيعنا فى عالم تجتاح معظم أركانه عواصف الأزمة المالية العالمية وتعقيدات الخروج الأمريكى من مستنقعات الاحتلال فى أفغانستان وباكستان والعراق.

●●●


نعرف أن أوروبا، الموحدة، أو غالبا أوروبا الدول، كانت تؤيد وتدعم حكومات عربية مستبدة، كانت تلمع صورهم وتشدو بحكاياتهم وحسناتهم وتعتم على فسادهم، وبعضها مشارك فيه. وعندما هلت بشائر ربيع العرب وازدانت مدن عربية عديدة بألوان الثورات الخلابة وارتفعت فى صخب وحماسة توقعات الشعوب العربية كافة جاء رد أوروبا الموحدة خفيفا وبطيئا وخجولا وكسولا وأكاد أقول كسيحا. هذا الرد كان فى رأيى القشة التى قصمت ظهر السمعة الدولية لأوروبا.

لا أكون أبالغ إن قلت إن الثورات العربية لو كانت قد انتهت بالفشل مبكرا لما كنا اليوم نقف شهودا على إعلان الفشل الأوروبى فى وضع سياسة خارجية موحدة. أضيف أنه لو واصلت الثورات العربية مسيرتها على الطريق الشاقة التى اختارتها لتصل بشعوبها إلى الديمقراطية، صاعدة حينا وهابطة حينا آخر، منتصرة تارة ومنكسرة قليلا تارة أخرى، متأكدة وواثقة مرة ومترددة ومتشككة مرات، ففى الغالب ستزداد أوروبا انقساما حول صيغة للتعامل مع هذه الثورات. لن تكون أوروبا الموحدة مؤثرة إن أرادت التأثير. إن الفشل الأوروبى الراهن فى الاستفادة من ربيع العرب، سيؤكد لكل الشعوب أن أوروبا قوة دولية فاقدة النفوذ ولا يجب أن يحسب لها حساب. أوروبا التى لم تفلح فى أن يكون لها دور فى الشرق الأوسط، حين واتتها الفرصة الذهبية، سبق لها أن أضاعت فرصة ذهبية أخرى حين كان متاحا لها ضم تركيا للاتحاد الأوروبى.

هناك شعور بالاحباط لا شك فى وجوده فى أوساط النخب الأوروبية وكذلك بين الشعوب. كان المتوقع مثلا أن تعود الاصلاحات المؤسسية التى أدخلت خلال العقد الأخير بالفائدة على السياسات الخارجية الأوروبية. وهو ما لم يحدث. إن اختيار هرمان فان رومبييى رئيسا للمجلس الأوروبى وكاثرين آشتون ممثلا أعلى للسياسة الخارجية وإنشاء إدارة متخصصة للعمل الخارجى الأوروبى لم يغير شيئا فى حالة الشلل والتخبط السياسى. إلا أننا ربما نكون من الظالمين إذا ركزنا على مسئولية أفراد ومؤسسات عن الشلل والفشل وأهملنا تطورات أشمل وأعمق حدثت فى أوروبا فى السنوات الأخيرة، أهمها على الإطلاق الميل المتزايد فى أوروبا نحو العودة إلى التقوقع القطرى والتعصب القومى.

●●●


لا يمكن إنكار أن التعصب القومى آفة أوروبية أصيلة، بل لعلها الآفة التى تخصصت أوروبا دون غيرها من قارات العالم فى صنعها وممارستها وتصديرها إلى العالم الخارجى على امتداد قرون. ولا يمكن إنكار أننا حبسنا أنفاسنا فى انتظار أن تقضى أوروبا الموحدة على هذه الآفة وتستأصلها. ولكننا فوجئنا بالعكس يحدث. بعضنا لا شك يذكر أن إيطاليين قاموا بإشعال النيران فى معسكرات يسكنها الغجر قبل 3 سنوات، ونذكر الحملة التى شنتها حكومة فرنسا لترحيل الغجر المهاجرين إليها من دول فى أوروبا الموحدة. ومنذ ذلك الحين وبالرغم من الضجة العالمية التى أثارتها حملة الكراهية ضد الغجر ورغم موقف المفوضية الأوروبية استمرت مشاعر التطرف القومى تتصاعد وتكسب أراضى جديدة لم يسبق أن عرف عن أهلها التطرف والتعصب مثل فنلندة والسويد وبريطانيا والمجر، واشتد عود التعصب فى دول كان حاضرا فيها مثل إيطاليا وفرنسا وهولندا والدنمارك.

فى أماكن أخرى عديدة اشتد ساعد اليمين المتطرف فاستولى على منابر سياسية كثيرة وقامت حكومات عديدة بتشديد الاجراءات على حدودها ووضعت قيودا جديدة على الهجرة والمهاجرين وأرجأت تنفيذ برامج ضم العائلات، وأضافت تعقيدات إلى اجراءات الاستفادة من الخدمات الصحية والاجتماعية، حتى وصل الأمر بزعماء سياسيين فى النمسا وألمانيا وهولندا بالتجاسر على اتهام المسلمين صراحة بأنهم أقل ذكاء.

●●●


يوجد بين المعلقين والمحللين الأوروبيين من يبالغ فى توصيف الانتكاسة الأوروبية وحصر أبعادها. يوجد من يعتبر الموقف الألمانى من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التى تعتصر شعوب البرتغال وأيرلندا وإسبانيا واليونان بأنها تعيد إلى الأذهان سلوكيات التعالى البروتستانتى على الكاثوليك والأرثوذكس. المبالغة هنا واضحة ومثيرة ولكنها تعكس طبيعة رد الفعل لدى شعوب جنوب أوروبا للموقف «الأبوى» الذى اتخذته حكومة أنجيلا ميركل من الأزمة الناشبة فى منطقة اليورو. تعكس أيضا مشاعر لا يخفيها الرأى العام الألمانى تجاه الدول الأوروبية التى لم تحقق استقرارا اقتصاديا مناسبا أو التى أساءت فى نظره توزيع أوجه الانفاق فى موازناتها ولم تتحكم فى حجم الديون التى استدانتها لتسوية العجز. هذه الدول تطالبها ألمانيا بالتوقف عن ممارسة سياسات مالية غير مسئولة وبالتقشف فى الإنفاق، وهو الطلب الذى تعتبره شعوب هذه الدول أسلوب إفقار، وتطبيقه يعنى مزيدا من تفكيك المجتمعات والعائلات الأوروبية لما سيجره من هجرات جماعية للشباب للعمل فى الخارج.

●●●


يقع الشبان فى قلب هذه الأزمة الأوروبية، ليس فقط لأنهم فى العديد من الدول الأوروبية صاروا الفئة العمرية التى تتحمل عبء تمويل جانب كبير من تكلفة الرعاية الاجتماعية لفئة كبار السن وهؤلاء يزدادون عددا، ولكن أيضا لأن أكثر من نصفهم صار فى بعض الدول عاطلا عن العمل. كان الشبان يشكلون النسبة الأكبر بين المتظاهرين الذى خرجوا فى 11 مدينة من مدن البرتغال، وكانوا أغلبية بين المعتصمين فى طريق الحرية Avenida da Liberdade فى لشبونة على امتداد أسابيع بدأت فى مارس الماضى.

كانوا أيضا أكثرية بين المتظاهرين فى مدن عديدة من اسبانيا وبخاصة بين المعتصمين لأيام عديدة فى ميدان بوابة الشمس فى العاصمة مدريد. هؤلاء رفعوا الشعار الثورى الرائع الذى رددته حناجر مئات الالوف فى مدن أوروبية وعربية عديدة «إذا لم تتركونا نحلم لن نترككم تنامون».

●●●


شقوق هنا فى الكيان العربى وشقوق هناك فى الكيان الأوروبى. تقع مسئولية هذه الشقوق وما يستجد عليها على عاتق الطبقة السياسية التى صنعت الأزمة هناك والطبقة السياسية التى تسببت فى صنع أزمة هنا واستوردت من أوروبا مقومات أزمة بل أزمات أخرى كثيرة.
هنا وهناك يقف بالمرصاد جيل جديد من رجال ونساء وشباب وكهول يحلمون ويتبادلون أحلامهم. والخطر كل الخطر فى أن يجرب أحد أو جهة أو تيار أن يحرم هذا الجيل المتربص والمسيس من الاستمتاع بهذه النعمة وممارستها، نعمة الحلم.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي