سيول من البشر كانت، حتى تصورنا أن هذا الجسر العتيق لن يتحمل كل هذا الكم من البشر.. نساء ملتحفات بالحجاب أو النقاب وسيدات أخريات بالجينز والقمصان التى تحمل «تمرد» وشباب فى عمر الزهور.. شباب بتنوعات جغرافيا هذه الأرض وألوانها.. رجال كهول ونساء متقدمات فى العمر جاء بعضهم على الكراسى المتحركة حاملين علم ذاك الوطن الساكن هنا.. وقف الأسدان على حافة الجسر يراقبان القادمين ربما لو نطقوا قالت لى تلك الصديقة.. ربما! لسمعنا حكايات وقصص عن شعب لم يتوقف عن التمرد والثورة .. شعب يرسم دروبا مختلفة ويعلم البشر كل البشر فى بقاع الكون الأربع دروس فى حب الوطن والحرية والتضحية..
●●●
التصقت الأجساد بالأجساد حتى تلاحمت لم تنزعج تلك الأجساد من حرارة الشمس فقد أرسلت الطبيعة حصتها من هذه الثورة الثانية جاءت نسمة ترسل ببعض الندى على جبين القادمين.. سيول من البشر أو ربما تسونامى كما سماها كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل على امتداد البصر كلما دفع الجسر بالأجساد إلى القلب إلى هناك حيث الميدان كلما امتلأ من جديد بقادمين جدد زحفوا من مختلف المناطق.. فى شكل كتل بشرية ترفع الشعارات أو أسر مجتمعة من الأم حتى الأطفال الصغار فى العربات.. إلى أفراد حملوا مفتاح بيتهم ورحلوا تناديهم تلك الساحة الميدان من جديد فلبوا النداء.. الجميع يتساوون فى الحب لا يحمل غيره ترى ذلك على الوجوه المشرقة كأنها قادمة إلى احتفالية جماعية رغم أن اليوم هو الثلاثين من يونيو وليس الرابع عشر من فبراير.. ربما تعاد تسمية عيد الحب ليكون ذاك.. الإشارات الحمر المعلقة فى الرقاب تحمل كلمة واحدة فقط هى نفسها التى كررها الجموع «ارحل».
●●●
تقترب كتلة اخرى من البشر تلتقى عند الأوبرا وكأنها تقول هذا وطن الحضارة والثقافة والحب والعطاء وكثير من الضحك لا تنسوا أن المصريين هم من علموا الكون كيف يضحك حتى فى أكثر اللحظات سوادا .. كلما ازداد الوجع العام والخاص أكثروا هم من الضحك حتى إنه عندما لا يبقى أحد لم يقع تحت مصيدة نكاتهم يعودون إلى أنفسهم .. هم شعب يتقن الضحك والسخرية حتى من نفسه.. كم من الثقة هى عندما يسخر المرء من نفسه.. تلك كتلة مختلفة سبقتها قرقعة القباقيب.. نعم القباقيب وهى كتلة المثقفين والفنانين والموسيقيين والملحنين والأدباء كل المبدعين.. كلهم جاءوا وأمسكوا بأيدى بعضهم البعض وآخرون رفعوا القباقيب يطرقون بها ويرددون هم الآخرون «ارحل».. هم من وقفوا للدفاع عن التاريخ الثقافى لهذا الوطن.. هم من رقصوا على حافة النهر، عندما احتفلوا بالجسد كقيمة فنية غاية فى الإبداع، هو ليس ذاك الجسد الذى تفنن الاخرون فى لفه بقماش قاتم.. هو ليس ذاك الذى يخافه الآخرون وألصقوا به كل ما جاء من عبارات الشيطان الرجيم.. هو الجسد اله الجمال المخلد.. تقترب الكتلة شيئا فشيئا من ذاك الجسر بعد الوقوف بعض الشىء فى حضن الثقافة ورمزها الأوبرا.. يلتفت أحد الأسدان عند فم الجسر يبتسم بعض الشىء وكأنه يقول: «هذا شىء جديد لم أره من قبل» حتى هو يفاجئه ابداعهم فى التمرد.
●●●
فى وسط الجسر وقفت أربع سيدات كلهن غطين رؤسهن بالحجاب وليس عقولهن كما يبدو.. ابتسمت إحداهن وهى تنظر فى الأفق البعيد ومياه النيل سائبة تحت ذاك الجسر ولكنها اليوم تحتفل بصبية صارت تقفز من أعلاه إلى بطن الماء هى الأخرى تتمرد على المألوف والمعتاد وتغتسل من بعض ما علق بها من ذاك العام الطويل كالدهر.. التفتت احداهن وهى تحمل علم مصر فى حضن كفها لا تعرف الأجساد التى التصقت بها ولا تلك الوجوه، ربما لم ترها من قبل ولكنها ككل الوافدين إلى أرض العشق تصورت أنهم كلهم رفاق لها فراحت تتحدث معهم بحرية مطلقة قالت وكررتها «وحشتينى يا مصر» ابتسم الحشد القريب منها وراح يكرر «مصر وحشتنا كلنا».. وما لبث الجمع أن استمر فى الطريق حتى لا يعطل السيل الجارف حتى لا يكون الحجرة التى تعرقل امتلاء الميدان بالعشاق.. سار الجمع ووقف لساعات لا يكل ولا يتعب حتى رحلت الشمس نادمة على مغادرتها هذا المشهد والتصقت النجوم بالسماء تنير الظلمات فتحول الميدان إلى شعلة من نور.. وراح العاشقون فى طقوس الحب يمضون، بعضهم يغنى وآخرون يكررون الهتافات العالية والأعلام هى العامل الموحد للجميع ولا شعارات سياسية ولا أحزاب ولا تنظيمات شبابية ولا زعامات فقط وجوه المصريين كما هم من الزمالك حتى الكيت كات.. بعد عامين من ثورتهم الأولى عادوا إلى هنا حيث لا مكان إلا لكثير من الحب لهذا الوطن الذى عبرت عنه كثير من الفتيات بأصوات عالية «باحبك يا مصر».. حتى قال أحدهم المرأة المصرية هى بطلة هذه الثورات المتتابعة.. هى ملحها وأرضها وهى أول من كسر حاجز الخوف فجاء السيل الجارف.. وهن هناك بل وهم جميعا فوق الجسر وأرض الميدان كانت العيون قد تحلقت من كل بقاع الأرض العربية منها وغير العربية غير مصدقة ما حدث.. كم أنتم رائعون قالها ذاك الواقف من أرض صنعاء حتى بحر أصيلة.. كم أنتم رائعون تعلمون العالم الدرس خلف الدرس.. ابقوا بخير.
صحفية من البحرين