كل الأعياد والحفلات والمناسبات لم أعد أحضرها إلا نادرًا، أحضرها مجبرًا لعزيز غال أو لفضول شديد الإلحاح أو لدرء شبهة. دعونى لعيدها ولم أتردد. قيل لى بين ما قيل لوقف ما بدا للأقربين ترددًا فى القبول أو الاعتذار، «اطمئن فأنت فى صحبتنا ذهابا وإيابا وأهل البيت تعرفهم كراما وودودين ولن تشعر معهم بضجر أو ملل وينتظرك كما ينتظرنا أطايب الأطباق وحلو الكلام».
• • •
ما بدا للأقربين ترددًا كان شرودًا وتأملًا. معا كنا زوجًا فريدًا. أنا فى الحضور الأكبر على الإطلاق لا ينافسنى فيه آخر. أما هى فكانت الأصغر أيضًا على الإطلاق لا تنافسها فى هذا الامتياز طفلة أخرى. أشهد بأنها تفوقت فى أشياء وصفات أخرى عديدة. كانت، بين الاثنين هى وأنا، الأكثر حركة. أذكر أننى غيرت مكانى مرة واحدة، أما هى فمشت داخل القاعة أميالًا لو حسبنا عدد خطواتها خلال الحفل. لم أنافسها فى المشى والحركة، وما كان يمكن أن أنافسها فى معيار أو قياس الشعبية وحب الناس وإقبالهم بالأحضان وبغيرها فى التعبير عن هذا الحب. تألقت وأبدعت ولم تترك فرصة ليحصل غيرها على نصيب ولو قليلًا من انتباه الحضور نساء ورجالًا وشبيبة وأطفالًا.
• • •
كنت أعرف أن الحفل المدعو لحضوره فرصة للتعرف على أشخاص جدد. مجرد التفكير فى هذا الأمر كافٍ لإثارة الشك لدى الآخرين فى نيتى قبول الدعوة. لم يكن سرا أننى صرت عازفًا عن التعرف على جدد كثيرين أو قليلين. وجدت نفسى بعد أن وصلت وتجاوزت حاجزًا عمريًا معينًا أبتعد عن مناسبات أو فرص للتعرف على آخر أو آخرين. لم ينشغل بالى بهذا التغير فى سلوكى الاجتماعى. صحيح أننى لم أكن يومًا مخلوقًا مغرقًا فى إقامة علاقات اجتماعية كثيفة، لكنى فى الوقت نفسه كنت حريصًا على التأنى فى الاختيار، وإن اخترت التزمت.
• • •
ليلتها، أقصد ليلة عيدها، تصادف وقوعها مع الليلة السابقة على سفر الابن عائدًا إلى مقر عمله وعائلته فى الخارج. اختلطت المشاعر المختلفة. أمامى كائن يمثل الجيل الرابع فى عشيرة أشرف بانتسابها لى، وكائن يمثل الجيل الأول من بعد جيلى. الكائن الأصغر عمرا كان قبل شهر يجرب أن يحبو وعيناه متعلقتان بمن يمشى حوله، ولم أشك فى ذلك الحين أن فى وعيه حلم أن ينهض على قدميه ليمشى مثلهم ولا مانع لديه من الوقوع مرات والإصابة بأذى ثم آخر قبل أن يتحقق له الحلم. الكائن الآخر، وهو أيضًا أمامى، يقف فاره الطول. وجوده يذكرنى بأيام وليالٍ قبل ستين عامًا وأكثر قضيناها معًا، أمه وأنا، نحلم بأنه لن يجرب مغامرة تعود عليه وعلينا بأذى جسيم أو أزمة صعبة.
• • •
أعرف الآن، أو على الأكثر أخمن، أن صغيرتنا التى نحتفل اليوم بعيد بلوغها العام الأول من حياة سوف تكتشف ذات يوم أنها كانت تفكر وتقرر وهى دون العام الثانى من العمر. مرة ثانية، وفى عيدها والناس فى ضوضاء هائلة، وهى تتنقل من حضن لآخر، رأيتها بعين المراقب تستدرج حاضنها ليأتى بها إلى ناحيتى. كنت فى ركن قصى أجلس مع دبلوماسى مصرى سمعت عنه قبل لقياه أحلى الكلام، استغرقنى الحديث، ولأول مرة منذ وقت غير قصير تكلمت أكثر مما تكلم محدثى. ربما هو الشوق لأصدقاء مشتركين وردت سيرهم ضمن حديثنا عن مهنة مررت عليها شابا فى سن التمرد ويمارسها محدثى ويتحدث عنها بلغة النضج والثقة.
• • •
نجحت الصغيرة، وقد بدت لنا محمولة على غير إرادتها، فى إجبار حاملها على الاقتراب من ركنى القصى. مرة أخرى تقف أمامى كالمتأمل فى عمق أو كالمفكر فى أمر مهم، مدت يدها نحونا ربما إعلانًا عن رغبة صريحة فى تغيير الحاضن قبل أن تسحبها بكبرياء وشموخ. تركتنى أفكر كما فكرت خلال وبعد أول حديث ساكت جرى بيننا وكتبت عن تفاصيله وقتذاك. تساءلت عن ماذا كانت تفكر وهى تستدرج حاملها لتأتى ناحيتنا وحين مدت يدها إلى ناحيتنا وحين سكنت حركتها لبرهة وعيناها تركزان علينا وحين ودعتنا بابتسامة. مرة أخرى أسأل «بأى لغة فى هذه السن المبكرة جدًا يفكرون». رحت أنظر إليها وعيناى تقيسان حجمها طولًا وعرضًا ثم تحملانها فى خيالى لوضعها فى المشربية التى قضيت فيها من طفولتى المبكرة ساعات عديدة. أوقاتى مع هذه المشربية وما رأيت من خلال ثقوبها من تفاصيل أشخاص يمشون وأشياء تتحرك فى شارع أمير الجيوش الجوانى أزعم لكل الناس أننى بالفعل ما زلت أذكرها بوضوح وجلاء. لا بد أننى كنت فى عمر طفلتنا أو أكبر شهورا لا أكثر، أكبر فقط بما يسمح لحجمى بأن يدخل من باب المشربية وبأن أقضى الساعات بلا ملل أطل على الشارع من نافذتها وثقوبها المحفورة بجمال وفن.
• • •
حانت لحظة الدعوة لنطفئ شمعة ونغنى مهنئين بحلول عام جديد فى حياة الكائنة التى استجدت علينا. غنى لها الصغار والكبار الأغنية التى صارت الأكثر شيوعًا فى عالم اليوم. تنبهت لحظتها إلى أننى أدندن مع المنشدين بصوت خافت وأن موعد نومى قد أزف. تسربت منسحبًا من الحفل تاركًا ورائى «أمينة» تجوب أنحاء المكان مهللة ومستعدة لسهرة طويلة تستحقها.