«غنا مصرى».. حلاوة التراث الشعبى - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«غنا مصرى».. حلاوة التراث الشعبى

نشر فى : الجمعة 9 سبتمبر 2016 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 9 سبتمبر 2016 - 9:20 م

بدعوة كريمة من الفنان خالد جلال رئيس مركز الإبداع الفنى بالأوبرا، حضرت الثلاثاء الماضى عرض «غنا مصرى» الذى استهل أولى حفلاته فى أول سبتمبر (وتستمر حتى الغد على أن تستأنف عقب إجازة العيد). هذه المرة الأولى التى أشاهد فيها هذا العرض الرائع، لم أكن أتصور أننى سأقضى قرابة ساعتين فى ما يشبه الحلم مع فن خالص وأداء شعبى أصيل افتقدناه لفترات طويلة، واستمتعتُ بما قدمه الثلاثى الواعد المبشر ماهر محمود ورباب ناجى ومصطفى سامى، وبإشراف المايسترو محمد باهر، من فلكلور شعبى؛ قطع ومربعات ومواويل صعيدية وموالدية على إيقاعات المزمار البلدى والربابة والرق والصاجات.
لم أكن أتصور هذا التجاوب المبهر من جمهور كان يصفق بحماس وانفعال شديد عقب كل وصلة، وعاد نداء «الله الله» بعلو الصوت ليهز أرجاء القاعة طربا واستحسانا. مع كل وصلة كان يؤديها الثلاثى انفرادا أو دويتو، غناء وأداء، كنا نستعيد بهجة طرب مفقودة، وأصالة فن توارى فى زحمة الابتذال والإسفاف و«ركش أبو قرش على أبو قرشين»،. اكتشفت أن كل غنوة وموال، أو مديح وإنشاد، أو مربع من مربعات ابن عروس الشهيرة غناها هذا الفريق الرائع، اكتشفت أننى أحفظ كلماتها وأدندن بألحانها عن ظهر قلب رغم أننى لم أسمعها ولم أرددها منذ كنت طفلا صغيرا.
شاقنى الحنين إلى أيام الصبا، وعدت بالذاكرة إلى سنواتى العشر الأولى حينما كنت أجلس بجوار جدتى التى كانت متعتها الوحيدة والكبيرة أن تستمع إلى هذا الفن الشعبى، كانت تجلس بجوار الشباك وصوت المطرب الشعبى يتصاعد من جهاز التسجيل العتيق، تردد معه أغانى الحج وزيارة النبى، وقلبها يهفو لزيارة الكعبة المشرفة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام. تتمايل وجدا وطربا، تتوه عن الخلق والخلايق، تسرح مع الحبيب، تغنى وتقول:
رايحة فين يا حاجة يام شال قطيفة
رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة
أو هى تمدح الرسول مع المداح وتقول:
صلوا معانا على النبى ألفين صلاة وسلام
الله أكبر يا نبى ألفين صلاة وسلام
طه الرسول.. طه الرسول
ابن الأصول.. ابن الأصول
استعدتُ كل ذلك وأنا أسمع صوت رباب ناجى القوى الصداح وهى تؤدى مثل هذه الأغانى الرائعة، أو وهى تغنى بنبرات تستعيد معها صوت الست خضرة محمد خضر، لكن بشكل عصرى ومدرب، غاية فى الأناقة:
«قالوا الودع موصوف..
للى شغل بالى..
أنا قلت أروح واشوف.. بختى أنا ماله»..
لفت نظرى أن كل الوصلات التى أداها الثلاثى الشاب، كانت بدرجة من التمكن والاحتراف والثقة بصورة لم أتخيلها فى عرضٍ أول أشاهده لهم، من الواضح أنهم تدربوا جيدا على أداء هذا اللون من الغناء الشعبى، وأنهم تشربوا روحه الحقيقية، وفهموا مقاصده وتعايشوا مع حالاته الوجدانية والشعورية، درجة الانسجام والتآلف بين المطربين الثلاثة عالية جدا، متى يبدأون ومتى يتوقفون، «طلعة الأغنية» التى غالبا ما تكون مصاحبة لإيقاع الطبلة الصاخب، فيستدعى ذلك إلهاب حماس الجمهور بتحريضهم على التصفيق وتهيئتهم للدخول فى الأغنية أو الموال.
لكل واحدٍ من المطربين الثلاثة طابع خاص يميزه، فماهر محمود إسماعيل مثلا، الذى أدى الأغنية الصعيدية الشهيرة «بتنادينى تانى ليه.. روحى للى حبتيه»، وأداها بشكل أكثر من رائع، حنجرته قوية للدرجة التى يتحكم بها فى طبقات صوته بالطريقة التى يريد، يعلو بحساب ويهبط بميزان، بالشعرة.
كنتُ سمعت هذه الأغنية الصعيدية الجميلة بأداء مدهش من دنيا مسعود، لكن حينما غناها محمود واشترك فى الأداء وما يشبه التمثيل مع رباب ومصطفى كان لها طعم آخر فعلا، ومذاق مختلف، تميزه الشديد فى الأداء واللهجة، نجاحه فى نقل حمولة الإحساسات المتناقضة وتصوير حالة عاشق ولهان كرامته تأبى الخضوع والذل والقبول بما لا يرضاه عاشق أصيل موفور العزة والكرامة:
«بتنادينى تانى ليه... انتى عايزة منى إيه
ما انتى خلاص حبيتى غيرى... روحى لـ اللى حبتيه
يا شيخة روحى لـ اللى حبتيه»
أما مصطفى، فأداؤه أداء الهادئ الواثق عميق النبرة والنفس، وحينما كان يؤدى مربعا من مربعات مدح الرسول، كنت تستملح أداءه؛ لأنه لا يحفظ كلماتها فقط ولا يغنيها بل يتمثل حمولاتها الشعورية والإنسانية، وينقل ذلك الإحساس بتمكن وثقة، أسمعه وهو يغنى مثلا المربع الذى افتتحه بـ:
أول كلامى أنا باذكر الله... واحد على الخلق راضى
رفع السما بدون عمدان... سبحانه باسط الأراضى
أو وهو يغنى هذا الشكل المعروف من الفلكلور الصعيدى:
ساعة معااااك.. ساعة
معااااك.. ساعة معاك
أنا ليا جعدة.. وساعة معاك
أبدى من روحى أفضلك
وأحبك وأشكر أفضالك
عايزك تفضالى وأفضالك
وأنا ليا جعدة.. وساعة معااااك
نجوم العمل الثلاثة، هم فى الأساس أصوات من أبناء الدفعتين الثانية والثالثة لمركز الإبداع، وهذا العرض هو أول عمل خاص بخريجى قسم الغناء؛ ماهر محمود من الدفعة الثالثة، ومصطفى سامى ورباب ناجى من الدفعة الثانية، وقام بتدريبهم على الغناء المايسترو محمد باهر والذى استطاع أن يلون تلك الأصوات بنفس الأداء الشعبى بكل مواصفاته وبنفس أداء الرواد الأوائل مع احتفاظ كل صوت منهم بشخصيته الغنائية، أما الفرقة المصاحبة فكلها من الآلات الشعبية الأصيلة.
لا بد من توجيه التحية لخالد جلال ولجهوده الكبيرة والمثمرة فى هذا القطاع، وأيضا تحية لوعيه وإدراكه بضرورة إحياء تراثنا الفنى والشعبى الأصيل، والعمل على نشره ودعوة الجمهور من جديد لمشاهدة عروضه والتمتع بجماله، وكم كنت فرحا حينما أكد على هذا فى كلمته الافتتاحية للعرض التى قال فيها إن هذا اللون من الغناء لا يعرفه ولا يقدمه سوى أهله؛ فى الوجه البحرى أو فى صعيد مصر؛ ذلك الفن الشعبى الأصيل الذى قدمه وأداه فنانون شعبيون كبار من طراز نادر لا يتكرر؛ أمثال محمد طه، وشوقى قناوى، ويوسف شتا، وخضرة محمد خضر، وياسين التهامى، وجملات شيحة، وفاطمة سرحان، ومحمد أبودراع، وإبراهيم خميس، وزين محمود، وهذا اللون الغنائى أصبح يعانى من التجاهل، ونحن فى أمس الحاجة لمن يعيده إلى الصورة الجميلة الناصعة التى تجلى فيها وظهر بها أمام الجمهور، ويستنهض جيلا جديدا من الأسماء تحمل الريادة بعد رحيل الرواد الأوائل أو تقدم العمر بهم ولم يعد لديهم القدرة على الغناء.
لن أنسى هذه الليلة الجميلة التى استمعت فيها لأحلى غنا وأحلى كلام، وذكرتنى بسهرات الطرب الحلوة «من بتوع زمان»، ليس هناك أحلى ولا أجمل من فننا الشعبى الأصيل، بكلام مواويل وفى مديح النبى و«عن اللى رايحين يزوروه»، ويا سلام يا سلام على صولوهات الأداء المنفرد للمزمار والربابة والناى والصاجات.
تحية خالصة لخالد جلال ولمركز الإبداع الفنى، وللأصوات المطربة الجميلة التى أمتعتنا بأداءاتها والعازفين المهرة الذين بهرونا بحلاوة عزفهم، ولكل مبدع أصيل أنتج فنا جميلا يصلح أن نواجه به القبح المستشرى من حولنا فى كل مكان.