كثيرا ما يحدث أن أكون مع بعض الأصدقاء في مصر جالسين في مقهى نتحدث في موضوعات شتى ثم ينضم إلينا بعض معارف أو أصدقاء أصدقائي، إلى هنا كل شيئ طبيعي ونستكمل الحديث وكل منا يدلي بدلوه في الموضوع الذي نتكلم فيه سواء موضوع جدي أو هزلي حتى يسألني هؤلاء القادمون الجدد عن مهنتي، وما إن أجيب بأنني أستاذ في جامعة نيويورك حتى ينقلب هؤلاء الجدد من الحديث ببساطة إلى الحديث باحترام شديد بل عندما أتكلم يستمع الجميع بتركيز كأنني "حاجيب الديب من ديله".. وهذا موضوع مقال اليوم.بالرغم من أننا نواجه مشاكل كبرى في التعليم وفي العلاقة بين الصغير والكبير (وبالعكس) ومشاكل أخرى كثيرة إلا أننا مازلنا نحترم من يمتهن مهنة متعلقة بالعلم فعندما يعرف الناس أنك أستاذ جامعي حتى تحظى باحترام كبير وهذا شيئ جميل لأن احترام العلم واحترام العلماء (دون تقديسهم) من الخطوات الأساسية لبناء مجتمع علمي ولكن هناك بعض العيوب يجب أن نتحدث عنها.
أولا تدهور مستوى التعليم (الجامعي وماقبل الجامعي) واهتمام أغلب الأساتذة بالترقية أكثر من العلم نفسه (إلا من رحم ربي) جعل فكرة الأستاذ الذي يعيش في محراب العلم ويهتم بكشف المجهول بهدف إسعاد البشرية عن طريق المعرفة ضربا من الخيال!
هل ينشر هذا الأستاذ الجامعي في مؤتمرات ومجلات مرموقة أم أن أغلب ما ينشره في مجلات ومؤتمرات محلية هدفها فقط ترقية الأساتذة؟ هل يبذل هذا الأستاذ مجهودا كبيرا في التحضير لمحاضراته أم يعتمد على ملازم تم تحضيرها منذ عشرات السنين؟ هل يهتم هذا الأستاذ بطلبته وتعليمهم أم يهتم فقط بتبجيلهم له؟
إذا ففكرتنا عن أستاذ الجامعة لم تعد صحيحة وإن كان عندنا بعض النجوم اللامعة الذين ينحتون في الصخر في التدريس والبحث العلمي بالرغم من قلة الموارد وأتمنى أن نتحدث عنهم في مقالات مستقبلية إذا قابلت أحد هذه النجوم اللامعة فما عليك إلا أن تنصت وتتعلم منه وتناقشه وتبقي على إتصالك به فهو عملة أصبحت نادرة جدا.
ثانيا وهي نقطة أكثر أهمية من سابقتها وهي عقدة الخواجة وقد تحدثنا عنها في
مقال سابق في سياق عام ولكن لنتحدث عنها ببعض التركيز هنا، إذا كنا نحترم أستاذ الجامعة قيراطاً فلو كان أستاذاً في الخارج أو حصل على الدكتوراه من الخارج فنضرب هذا الإحترام في ألف لأننا نعتقد أن من حصل على شهادته من الخارج أو يعمل في الخارج فلابد أنه علامة لأنهم في الخارج "بيفهموا ومابيجاملوش". لننظر إلى هذه النقطة بشئ من التفصيل.. هل كلمة الخارج تعني أية دولة خارج مصر؟ غالبا الإجابة بالنفي لأننا نقصد أوروبا وأمريكا وكندا وبدرجة أقل اليابان.. إذا "متعلم بره" وفقط لا تعني شيئا، لنأخذ أمريكا كمثال: توجد في أمريكا مئات من الجامعات، الجامعة في إحدى المراكز العشرين الأوائل في التصنيف مثلا أفضل كثيرا من الجامعة رقم ألف.. أعتقد (وهذا اعتقاد شخصي بحت) أنه بعد الجامعة رقم خمسين المستوى متدهور جدا بل وهناك جامعات كثيرة في الخارج أسوأ بكثير من جامعاتنا في الداخل فلنحذر عقدة الخواجة! من يسافر لتلك الجامعات يريد فقط أن يعيش في أمريكا!
لننظر إلى الجامعات العشرين الأوائل هل جامعة مثل هارفارد مثلا قوية في جميع التخصصات؟ بالطبع لا.. هي قوية في تخصصات مثل القانون وإدارة الأعمال ولكن أقل قوة (بكثير) في التخصصات الهندسية وعلوم الكمبيوتر مثلا ومشكلتنا أننا ننظر "عمياني" لأسماء بعض الجامعات التي نعرفها ومشهورة عندنا ولا نعلم شيئا عن تصنيف الجامعات "في كل تخصص" وهو الأهم.. هل تعلم ما هي أول عشر جامعات في أمريكا في تخصص هندسة الحاسبات؟ هل تعلم ما هي أول عشرين جامعة في أمريكا في التخصصات الطبية؟.. ليس هذا فقط.. لنفترض أنك تخرجت من هارفارد في تخصص مثل القانون مثلا منذ عشر سنوات فهل قرأت جديد التخصص بعد تخرجك أم أنك تعتمد على الـ"دال نقطة" واسم هارفارد؟؟ وقد تحدثنا سابقا عن
مفهوم الخبرة وعن
التعليم المستمر.
أخيرا وليس آخرا لقد حان الوقت أن ينضج المجتمع ويحترم الشخص لشخصه وخبرته وليس لمهنته.
أرجو في المستقبل ألا نأخذ آراء شخص ما كأمر مسلم به فقط لأنه "متعلم بره".