نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب عبدالعظيم محمود حنفى بتاريخ 10 أكتوبر تناول فيه العناصر الهامة لإنجاح أى تجربة اقتصادية... نعرض من المقال ما يلى:
توضح بعض الدراسات الاقتصاديّة الكيفيّة التى تنمو بها الاقتصادات؛ وتُقدّم وصفات لتحقيق المُنتجات والخدمات، وكلّها تتطلَّب عناصر ثلاثة: المواد الخام، والعمالة، والآلات، وهو ما يُسمى أيضا رأس المال البشرى.
والواقع أن هناك عنصرا رابعا، وهو التغيُّر التكنولوجى الذى يؤدّى إلى مُنتجات وخدمات جديدة، تتزايد الرغبة فيها أكثر من تلك التى كانت موجودة من قَبل فى السوق. كما يؤدّى هذا العنصر إلى طُرق أكثر كفاءة فى صنْع مختلف المُنتجات والخدمات وتوصيلها.
تقسّم وصفات النمو الاقتصادى هذه إلى فئتَيْن عريضتَيْن: الفئة الأولى هى «النموّ عن طريق القوّة الغاشمة»، وقصدوا بها إضافة المزيد من المدخلات والمزيد من العمالة والمزيد من رأس المال الذى يفضى إلى إنتاج أكثر.
الفئة الثانية هى «النموّ الذكى» أى التقدُّم التكنولوجى، والتى يُمكنها أن تُنقِذ الاقتصاد من تناقُص العائدات. وقد توصَّلت معظم الدراسات إلى نتيجة مؤدّاها أنّ التغيير التكنولوجى هو أحد المحرّكات الرئيسة للنمو.
يضع البعض من كِبار الاقتصاديين عناصر أربعة خاصّة بمحرِّك النموّ الاقتصادى المُعَدّ إعدادا جيّدا والذى هو اقتصاد رياديّة الأعمال الناجح:
أوّلا: عند إقامة مشروع يجب ألّا يصطدم بالروتين الذى يستهلك الكثير من الوقت والمال مع وجود نظامٍ مالى معقول يتميّز بالأداء الجيّد يعمل على توجيه مدّخرات الأفراد إلى مُستخدِمى هذه الأموال وإلى رياديّى الأعمال بشكلٍ خاصّ، مع أهميّة وجود أسواق عمل مَرِنة.
ثانيا: يجب أن تُكافِئ المؤسّساتُ الحكوميّةُ أنشطةَ رياديّة الأعمال وذات فائدة اجتماعيّة بمجرّد أن تبدأ، وإلّا فإنّه لا يُمكن أن نتوقّع من الأفراد أن يُخاطروا بضياع أموالهم وجهودهم فى مشروعات سيّئة الطالع. وهنا فإنّ سيادة القانون، وبالتحديد حقوق التعاقُد والملكيّة، تكتسب أهميّة خاصّة.
ثالثا: يجب ألّا تُشجِّع المؤسّسات الحكوميّة الأنشطة التى تهدف إلى تفتيت الكعكة الاقتصاديّة بدلا من أن تزيد من حجْمها. فهذه الأنشطة غير المُنتِجة تتضمّن سلوكا إجراميّا.
وأخيرا، فى حالة الاقتصاد القائم على رياديّة الأعمال، يجب أن تَضمن المؤسّساتُ الحكوميّةُ للمشروعاتِ الرياديّةِ الناجحة وللمؤسّساتِ الكبرى الرّاسخة مُواصَلةَ الحصول على الحوافز التى تُشجِّعها على الابتكار والنموّ، وإلّا غاصت الاقتصادات فى الركود.
ولكنّ كثيرين يتساءلون ماذا عن ذلك؟ ولماذا لا توجد فى القائمة أشياءٌ أخرى؟ على سبيل المثال، نَشأ تحدٍّ واضح من الاعتقاد بأنّ النموّ يتعلّق أساسا بالثقافة، وهو الرأى الذى قدَّمه ديفيد لاندس. ويعنى أنّ بعض المُجتمعات فيها أفراد مُغامرون يعملون بدأب. وهناك دولٌ أخرى تفتقر إلى مثل هؤلاء الأفراد.
ولا تنكر غالبيّة الدراسات أنّ هذه الثقافة تلعب دَورا، ولكنّه ليس ــ ولا يُمكن أن يكون ــ العامل الوحيد الذى يُفسِّر النجاح الاقتصادى. فلو كان هذا هو العامل الوحيد، فلماذا إذن نَجَحَ كثيرٌ من الهنود والروس وبعض المغتربين، اقتصاديّا، خارج أوطانهم، فى حين قبع آخرون فى بلادهم يُكافحون من أجل إعالة أنفسهم وأسرهم؟ إنّ الأمر ليس مجرّد «عمليّة انتقاء ذاتى» – وهو ما يعنى أنّ المُغتربين ينجحون فى أماكن أخرى، لأنّهم الأكثر مُغامَرة. إنّ الأقطار التى غادروها قد عانت كثيرا جرّاء إعاقة تقدّمها من طرف مؤسّساتها.
أو ماذا عن دَور الجغرافيا التى تقول: إنّ الحرارة فى بعض البلاد القريبة من خطّ الاستواء تجعل من المستحيل على الأفراد أن يعملوا بدأبٍ وتُعرِّضهم للأمراض، أو أنّ البلدان غير الساحليّة ترتفع فيها تكاليف النقل، ولا يُمكنها مُمارسة التجارة بسهولة مع باقى دول العالَم؟
ركَّز جيفرى ساكس على هذه العوامل باعتبارها عوامل تحدّ من النموّ أو تحول دونه. وكما هو الحال مع الثقافة، فقد تكون هناك أوجه تشابُه مع هذا الخطّ من الجدل؛ إلّا أنّ هناك أمثلة مضادّة لِما قيل سابقا، فإذا كان الوجود عند خطّ الاستواء هو قبلة الموت الاقتصاديّة، فكيف للمرء أن يُفسِّر النجاح الاقتصادى المُذهل الذى أَحرزته سنغافورة؟ وإذا كان عدم وجود مَنفذٍ على البحر يحكم على البلد الداخليّة بالتخلُّف.
وماذا عن التعليم، أو كما يُطلِق عليه عُلماء الاقتصاد من دون خلاف بينهم «رأس المال البشرى»؟ فإنّ كلّ أنموذج نظرى وكلّ اختبار تجريبى للنموّ الاقتصادى سيُخصِّص فعليّا دَورا لوجود قوّة عمل متعلّمة، ولا أحد يُجادل فى أهميّة وجود درجةٍ ما من التعليم لتحقيق النموّ. بيد أنّ بعض الدراسات لا تميّزه، باعتبار أنّ له دَورا فريدا فى خلْق مُجتمع أو اقتصاد رياديّة الأعمال، وذلك لسببٍ بسيط يتعلّق بسياق الأمور. مع تأكيد دراساتٍ اقتصاديّة على أنّ قوّة العمل المتعلّمة يُمكنها أن تُعزِّز نظام رياديّة الأعمال عندما تكون بعض أو كلّ العوامل الأخرى المذكورة آنفا موجودة داخل مُحيط رأسمالى، فإنّ الاحتمال الأكبر هو أن يُخرج لنا الأفراد المتعلّمون تعليما عاليا مشروعات تجاريّة متطوّرة، ولاسيّما فى عالَمٍ تزداد فيه التكنولوجيا العالية.
أخيرا ماذا عن الديمقراطيّة؟ أليست عاملا جوهريّا بالنسبة إلى النموّ، أم أنّه كما يدّعى الآخرون يلزم وجود درجة من الاستبداد فى البداية لتمكين الدول من الوصول إلى مستوىً معيّن من التنمية، وبعدها تُصبح الديمقراطيّة تقريبا أمرا حتميّا؟ إنّ هذه الأسئلة محلّ جدالٍ حادّ، وعلى الرّغم من أنّ الآراء بشأنها لم تُحسم بعد، إلّا أنّ رأينا فى البرهان الذى وَرَدَ ذكره، هو أنّ الديمقراطيّة بالتأكيد يُمكنها أن تُسهم فى النموّ، بخاصّة فى اقتصادات رياديّة الأعمال.
إنّ قائمة الافتراضات التى تبدأ بالسؤال «ماذا عن؟» لن تتوقّف بكلّ تأكيد، وعندما نتمعَّن فى النظريّات المتنوّعة والدراسات التجريبيّة للنموّ بتفصيلٍ أكبر، تتأكَّد لنا العناصر الأساسيّة الأربعة التى تمَّ ذكرُها وتشكِّل مُحرِّكَ النموّ النّاجح.