إن الذي يتابع الاحتجاجات الشعبية الإيرانية على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية يجد أن لها مدخلًا أساسيًا تختلف به عن كل الحركات الاحتجاجية الضخمة التي شهدتها الجمهورية الإسلامية منذ ثورة ١٩٧٩ وحتى الآن، وهذا هو المدخل الأيديولوجي الذي يُقصَد به رفض الحجاب المفروض من الثورة الإسلامية على كل المقيمات في إيران: مواطنات وغير مواطنات ومسلمات وغير مسلمات كتعبير عن الخصوصية الثقافية للثورة. أما كل الاحتجاجات الضخمة من هذا النوع سواء في عام ١٩٩٩ في عهد محمد خاتمي أو في عام ٢٠٠٩ في ظل حكم محمود أحمدي نجاد أو في بعض المظاهرات الكبيرة التي تمت في عهد حسن روحاني، في كل هذه الاحتجاجات كان المدخل لتحرك الشارع، إما سياسيًا برفض القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير(حرية الصحافة تحديدًا) ورفض التلاعب في نتائج الانتخابات الرئاسية لإنجاح مرشّح النظام، وإما أن المدخل كان اقتصاديًا برفض رفع سعر الوقود أو نقص المياه أو تردّي الظروف المعيشية بشكل عام.
هذا التحليل لأسباب الاحتجاجات الشعبية السابقة لا ينفي أن إيران سبق أن شهدت عمليات كرّ وفرّ بين النظام والنساء الرافضات للحجاب، وهذه ظاهرة موجودة منذ بداية الثورة نفسها وهو ما يفسّر لنا أن الحجاب لم يتّم تعميمه ولا تحديد شكله فور نجاح الثورة. لكن حدث تدرّج في فرض الحجاب بدايةً بالإدارات الحكومية ثم المدارس والجامعات ،وانتهى الأمر بفرض الحجاب على الجميع وتأسيس شرطة الأخلاق، كما حدث تدّرج آخر بالانتقال من عدم تحديد شكل لحجاب المرأة إلى اشتراط الشادور. إذن المواجهة مع النساء على خلفية الحجاب كانت موجودة ومتكررة، لكن الجديد في الاحتجاجات الأخيرة هو الالتفاف الشعبي الواسع حول النساء الإيرانيات اللائي واجهن بشجاعة منقطعة النظير جبروت نظام آيات الله، بحيث تحوّلت مهسا أميني من أيقونة لحركة تحرير المرأة الإيرانية إلى شرارة لتحرير الشعب الإيراني كله بقومياته المختلفة الكردية والبلوشية والآذرية فضلًا عن الفارسية، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل. وذلك أن اتساع نطاق التعاطف مع النساء كان له بُعد أفقي من خلال الامتداد الجغرافي الكبير بحيث لا نكاد نجد مدينة إيرانية وقفت على الحياد في الصراع بين الشارع والشرطة، كما كان للاتساع بُعد رأسي عبر انتقال الاحتجاج النسائي إلى مستوى المدارس الثانوية للبنات، فمع أن الجامعات الإيرانية لا زالت كالعادة في طليعة الحركة الاحتجاجية الشعبية، لكن تلك الحركة انسابت إلى مستويات عُمرية وبالتالي تعليمية أقل، ورأينا فتيات الثانوي وهن تطاردن أحد المدرسين وتنهلن عليه بالسباب، وهذا أيضًا جديد. كذلك فإن ما بدا وكأنه أمر غير مخطَط من النساء في البداية بقص شعورهن وإلقائها على الأرض وكأنهن يلقين بقفازات غضبهن في وجه النظام، صار رمزًا للحركة الاحتجاجية النسائية داخل إيران وخارجها.
•••
هذا المظهر أو المدخل الأيديولوجي للاحتجاجات الأخيرة يزعج النظام الإيراني أكثر من المدخلين السياسي والاقتصادي، أولًا لأنه في مواجهة المدخل السياسي يمكن للنظام القول إنه يأخذ بطقوس الديمقراطية من انتخابات دورية وتداول للسلطة إلى دور فعّال للبرلمان في الرقابة والمساءلة، وفي مواجهة المدخل الاقتصادي يمكن للنظام القول إن إيران تواجه العقوبات الاقتصادية منذ أكثر من أربعين عامًا ومع ذلك فإنها مستمرة في المقاومة. أما في مواجهة المدخل الأيديولوجي الذي هو درّة النظام الإيراني، والذي يتمايز به ليس فقط عن نظام الشاه السابق لكن أيضًا عما يسمّيه نظم الاستكبار العالمي فماذا يمكن أن يقال؟ إن حرق الحجاب معناه حرق الأساس الأيديولوجي للجمهورية الإسلامية، وهذه انتكاسة كبيرة لتلك الجمهورية لأن النساء اللائي شاركن في الثورة على الشاه عندما أردن إبراز تمايزهن عن مشروعه الثقافي قمن بوضع غطاء على الرأس، وبمفهوم المخالفة فإن النساء المحجبات بالقوة عندما أردن نزع الشرعية عن النظام الحالي تعمّدن خلع الحجاب بل وحرقه، فما أبعد المسافة بين الليلة والبارحة!
•••
نقطة أخرى مهمة لم ينتبه لها كثير من المحللين وجاءت في كلمة المرشد الأعلى علي خامنئي أثناء حفل تخرّج طلاب الأكاديميات العسكرية في طهران يوم الاثنين الماضي، إذ حرص على فك الارتباط بين الحجاب والاحتجاجات الشعبية فقال "المعركة ليست قضية وفاة شابة أو بشأن الحجاب وسوء الحجاب.. عدد كبير من النساء ليس لديهن حجاب لكن من أنصار النظام ويشاركن في المراسم المختلفة!". بعد ذلك أطلق خامنئي تغريدة على حسابه الرسمي تضمّنت نفس المعنى بالقول "المسألة ليست حول قضية الحجاب في إيران. كثيرات هن النساء اللواتي لا يرتدين حجابًا كاملًا وهن من الأنصار الحقيقيين لنظام الجمهورية الإسلامية. المسألة حول أصل استقلال إيران وصمودها". هذا كلام مدهش في الحقيقة، فإن كانت المشكلة ليست في الحجاب غير الكامل فلماذا إذن أوقفت شرطة الأخلاق مهسا أميني ولماذا اصطدمت هذه الشرطة من قبل بعشرات النساء من ذوات "الحجاب السيئ"؟ بل فيم أصلًا كانت الحاجة إلى وجود قانون يفرض على النساء ارتداء الحجاب ويعاقب غير الملتزمات به؟ ثم أين هنّ النساء سيئات الحجاب اللائي يشاركن "في المراسم المختلفة" للنظام إذا كان الشادور هو شرط النفاذ إلى داخل النخبة النسائية المتنفّذة؟. لقد كرّر خامنئي كلام المسؤولين الإيرانيين عن أن إيران هدف لمؤامرة غربية-إسرائيلية، لكنه عندما استبعد الحجاب كمفجّر للاحتجاجات الشعبية وقع في تناقض مع نفسه بل ومع الأساس الأيديولوجي للنظام الإسلامي، وأعطى من حيث لا يدري المبرر لذوات "الحجاب السيئ" كي يدافعن عن حجابهن بالاستناد لكلامه، وهذا ما لم يحسب حسابه قط!