يجافيه النوم كما مرات عدة. يتقلب يمينًا وشمالًا فى الفراش فيحدث اهتزازات خفيفة متقطعة يحمد الله بعدها أنه ليس هناك من يشاركه غرفته، وإلا كانت ستطاله سهام الأرق والسهر الإجبارى. تسيطر على رأسه جملة موسيقية واحدة، هى مطلع موشح «حرم النوم علينا وغفا»، فيكررها إلى ما لا نهاية بصوت خفيض لا علاقة له بطلاوة الغناء. نشاز وسُهاد. لا يعلم من الذى يعاند من؟ هو الذى يرفض أن يغلبه النعاس أم هذا الأخير هو الذى يقاومه بكل ما أوتى من قوة؟ لكنه متأكد من وجود أزمة بينهما بدأت قبل سنوات. خطر بباله أن يكتب عن علاقته المعقدة بالنوم وعن التغيرات التى طرأت عليه من جراء تبدل أنماط الحياة، خاصة أنه قرأ طويلًا فى الموضوع ليفهم ما الذى يحدث بداخله. اكتشف أننا ننام ثلث حياتنا تقريبًا رغم تقلص مدة النوم بمعدل ساعة ونصف الساعة على مدى الخمسين عامًا الأخيرة، وأن حوالى 75% من الناس فى بعض الدول يستيقظون مرتين فى الليلة الواحدة، وأننا ما زلنا نجهل الكثير حول هذا العالم الملىء بالأسرار والذى تضفى عليه الأحلام مزيدًا من الغموض.
أخبر أحد الأصدقاء برغبته فى الكتابة عن كل ذلك وبالأسئلة التى تختمر فى عقله، فساعده على تحميل تطبيق عبر الهاتف يسمح بمتابعة دقات قلبه وطريقة التنفس وطبيعة النشاط الدماغى أثناء مراحل النوم المختلفة. قال له صاحبه إنه يضع عُصابة سوداء على رأسه مثبت بها ملاقط وأسلاك كتلك المستخدمة فى فحص المخ تسجل من خلالها كل المعطيات، كما ترسل ذبذبات تنتقل عبر العظام لكى تُحسن جودة النوم. هذه الأجهزة والتطبيقات ضمن سلع أخرى كثيرة تُبين اتساع حجم سوق الأرق والنوم، فكلما دخلت إلى صيدلية تجد رفوف المتجر مليئة بأدوية الاسترخاء والنعاس.. البضاعة أشكال وألوان، والهدف منها جميعًا أن يغرق الفرد منا فى سبات عميق بحسب عمره وحالته، فحديثو الولادة يحتاجون يوميًا إلى 18 ساعة نوم، تنخفض إلى 11 ساعة خلال سنوات الطفولة، ثم 9 ساعات عند المراهقة حتى يصل البالغون إلى 7 ساعات ونصف، وهو ما يتردد عادة أنه المعدل الطبيعى للأشخاص العاديين.
• • •
يضحك عند سماع كلمات «طبيعى» و«عاديين»، فهى لا تعنى شيئًا وهو يعلم أن لكل إنسان إيقاعه الخاص الذى يجب عليه استيعابه واحترامه، كما أن هناك العديد من الأساطير والخرافات الشائعة بهذا الصدد وقد أثبتت التجارب كذبها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ارتباط عمق النوم بمراحل معينة، فهناك من يزعم أن الساعات الأولى من الليل تكون أكثر فائدة وتساعد على التعافى وتدعيم الذاكرة، لكن فى الواقع يختلف الأمر بحسب عادات الشخص، من يأوى إلى الفراش فى الثانية صباحا يحظى بنوم مريح بين الثانية والخامسة، وهكذا دواليك. وفى القرن السابع عشر الميلادى، حين بدأت عادة "نوم الظهيرة"، سادت العديد من الخزعبلات حول الاستلقاء على الظهر بعد الأكل أو فتح الفم أثناء النوم، ومع الوقت صارت من الماضى، حتى وإن استمر الناس فى الاستمتاع بـ«تعسيلة» بعد الغذاء خاصة فى الجو الحار.
كل الكائنات بحاجة إلى الراحة حتى تبقى على قيد الحياة، وقد كان يعتقد أن النوم من الحاجات البسيطة تلبيتها، فالشخص يفعلها وحده، أى أنها ليست عميلة مثل الأكل تحتاج إلى وجود طعام.. يكفى أن يشعر الإنسان بالتعب لكى يخلد إلى النوم. تدريجيًا، اتضح أن ذلك محض خيال، فمجرد أن تخلو بنفسك ويصبح لا ثالث لكما أنت والوسادة تبدأ الأفكار والمخاوف فى مطاردتك. تباشر بمحاسبة الذات ومراجعة أحداث اليوم. يباغتك صوت جاء من الخارج أو إضاءة لافتة إعلانية يصلك وميضها من خلف زجاج النافذة. ومع كل الطقوس التى تمارسها بشكل متكرر كى توفر لنفسك بيئة ملائمة للنوم، يجافيك هذا الأخير ويجعلك تمسك هاتفك المحمول كى تتطلع قليلًا على الأخبار، رغم علمك أن هذا كفيل بأن يباعد بينك وبين النعاس نهائيا.. لكنك سئمت وجودك يقظا فى الفراش، فقررت أن تستمع فعليًا للأغنية التى رددت أجزاءً منها، وأن تراقب ما الذى ينام فيك حين تغفو وما الذى يظل يقظا بداخلك ويحرمك الراحة، سواء معنويًا أو جسديًا؟ فهناك أوجاع تنتهز فرصة سكونك لتنشط.
كل ما هو حولك يدعوك إلى القلق، مهما احتميت بغرفة نومك وسريرك وجدران المنزل لتصنع لنفسك ملاذًا آمنًا. المدينة مُرهِقة، ليلها ساهر ونهارها شقى. ويكفى أن تقوم بجولة إخبارية على الإنترنت أو تشاهد التلفاز حتى تلاحقك صور أبناء الأراضى المحتلة فى صحوك كما فى نومك. عالم الشاشات والحروب المباشرة لم يترك لنا مهربًا، جعلنا فى حالة استنفار دائم، وصاحِبُنا بحاجة إلى هدنة ليلية.
• • •
حاول أن يطبق طريقة يعتمدها جنود الجيش الأمريكى للنوم خلال دقيقتين، كشف عنها أحد المدربين فى ثمانينيات القرن الفائت، ويطلق عليها «الاسترخاء العضلى التدريجى»، وهى تساعد على تخفيف التوتر عن طريق شد وإرخاء مجموعات عضلية مختلفة فى الجسم بالتناوب، مع تنفس عميق وبطيء، ثم استدعاء صور أماكن مريحة للذهن. لا ينتظر شيئًا من الأمريكان، فلماذا توسم الخير فى هذه التقنية؟ التقط كتابًا عن المبدعين والنوم، استعرضت فيه محللة نفسية تدعى مارى داريوسيك نماذج لأدباء عانوا من الأرق أمثال بروست وكافكا وبورخيس ودوستوفسكى، دون أن تثبت على وجه الدقة العلاقة بين التأليف والسُهاد. فى المقابل، تذكر حكاية طريفة عن توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائى، تربط بين الإبداع والنوم، إذ يُروى أنه كان حريصًا على أن يحظى بقسط من الراحة فى وسط النهار، يغفو قليلًا حاملًا كرة معدنية صغيرة بين يديه، حين تفلت منه وتقع على الأرض يستيقظ ويعود نشيطًا مرة أخرى ويُدون على الفور الأفكار التى تدافعت إلى ذهنه خلال النوم. وعلى ما يبدو كان الفنان سلفادور دالى والفيزيائى الفذ ألبرت أينشتاين يفعلان الشىء نفسه، فأثناء النوم يتم تحييد الزمن ويتحرر المرء من عوامل تكبله تتعلق بالتربية ومعتقدات المجتمع والمنطق السائد، عندئذٍ يصبح كل شىء ممكنًا وتُفتح أبواب الخيال، تلك هى المساحة التى يصبو إليها صاحبنا، ففى واقعنا صارت الحرية مرتبطة بالنوم.