استغرقت مناقشتي للدكتوراه (منذ حوالي 15 سنة!) ثلاث ساعات وبعد المناقشة وموافقة اللجنة على منحي الدرجة نبهني أستاذني المشرف أنني كنت شديد الهجوم على أبحاث من سبقوني لأني كنت استخدم كلمات من نوعية "ضعيف" و "لا أثق به" وإنتهاء ب"كلام فارغ" ... كانت حماسة الشباب ووقتها بدأت أتعلم رويداً رويداً الفارق بين النقد والهجوم ... وهو موضوع مقالنا اليوم.
إذا تتبعنا تاريخ تطور العلوم لوجدنا أن المجتمع العلمي ديموقراطي جداً حتى وإن ظهر عكس ذلك في بعض الأحيان، فعندما تظهر فكرة جديدة قد تتم محاربتها في البداية أو ينظر لها البعض بتخوف ولكن في النهاية يربح التفكير العلمي ويتقبل المجتمع العلمي الفكرة الجديدة ولولا ذلك لما تقدم العلم، والمحرك الأساسي لهذا التقدم هو النقد، عندما تظهر فكرة علمية جديدة يجب أن ينقدها العلماء ويدافع عنها أصحابها وكل ذلك في إطار علمي متعارف عليه، إذا أمكن الدفاع عن الفكرة وتمكن العلماء من إثباتها بتجارب من مجموعات بحثية مختلفة فستلقى الفكرة قبولاً حتي تدحضها فكرة أخرى أوتجربة جديدة تثبت قسورها وهكذا يتطور العلم من فكرة إلى أخرى ... إذا النقد العلمي لفكرة ما هو ما يدفع عجلة العلم للأمام، وهناك عبارة معلبة كثر استخدامها وهي كلمة "النقد البناء" وهي عبارة ليست دقيقة لأن النقد غير البناء ليس نقداً بل هو هجوم وعادة أنت تهاجم فكرة جديدة عندما تخاف من التغيير وما تعودت عليه أو من الغيرة من صاحب الفكرة الجديدة أو من عدم فهمك الكامل للفكرة الجديدة أو لأن الهجوم سهل ... ولكن النقد ليس سهلاً ... فكيف قنن المجتمع العلمي في عصرنا وسائل النقد؟ إنها ما نسميه لجان التحكيم.
دعني أعطيك فكرة عن كيفية التحكيم في المؤتمرات العلمية الكبرى ولنأخذ تخصصي (هندسة الحاسبات) كمثال ولكننا نستطيع بسهولة تعميمه على كافة التخصصات وأيضاً على المجلات العلمية، الخطوة الأولى هي إختيار المحكمين، المحكم يجب ألا يكون متحيزاً وهذا صعب لأن النفس البشرية ليست متجردة من الهوى بنسبة كبيرة ولكننا نحاول أفضل ما نستطيع كالآتي: المحكم لا يجب أن يكون من نفس جامعتك أو مؤسستك أو شركتك ومشرفك في الدراسات العليا لا يحكم أبحاثك مدى الحياة وأنت كمشرف لا تحكم أبحاث طلبتك مدى الحياة وأي شخص شاركك في أبحاثك في السنوات الخمس الماضية لا يحكم أبحاثك وإذا كان هناك أفراد من عائلتك في نفس مجالك فلا يحكمون أبحاثك مدى الحياة وفوق كل ذلك المحكم لا يعرف أسماء أصحاب البحث ... وأصحاب البحث لا يعرفون أسماء المحكمين ويسمى ذلك بالعمى المركب (double blind)... وكل بحث يحكم من 4 إلى 6 محكمين ... لاحظ أنني أتكلم عن المؤتمرات والمجلات القوية لأن هناك مؤتمرات أضعف لا تطبق هذه الشروط الشديدة ... المهم أن هذا ليس آخر المطاف فبعد أن يقدم المحكمون نقدهم تجتمع لجنة مصغرة يتم تغييرها مع كل مؤتمر لمناقشة آراء المحكمين والوصول إلى رأي بخصوص قبول أو رفض البحث.
طبعاً أي نظام ليس خالياً من الأخطاء فالبحث يمكن رفضه لأنه ليس مكتوباً جيداً فالفكرة قد تكون جيدة ولكن تقديمها ليس جيداً ... ولكن لنكن واقعيين ففي هذا العصر تنشر حوالي مليونان من الأبحاث في السنة الواحدة في مختلف التخصصات العلمية يجب أن يكون البحث مكتوباً بطريقة جيدة لأن نشر البحث ليس نهاية المطاف.
بعد نشر البحث يخرج من الدائرة الضيقة للجان التحكيم إلى المجتمع العلمي الأوسع فإذا لم يكن البحث مكتوباً بدقة وبطريقة سهلة فلن يقرأه الباحثون ولن يبنوا عليه ومن ثم لن يكون له تأثير في دفع عجلة العلم.
ماذا عن المحكِم؟ أولاً يجب أن يكون متجرداً من أي هوى ويجب أن يكون ملماً بأحدث النظريات في المجال الذي يحكمه وإذا غاب شيء عنه يجب أن يسأل متخصصين آخرين ويدرج أسمائهم كمحكمين خارجيين ... ولكن طبعاً كما قلنا ليس هناك نظام كامل ولكل نظام عيوب فالمحكم قد يكون مطلوباً منه تحكيم عدد كبير من الأبحاث في وقت كثير فلا يعطي لكل بحث حقه ... ولكن هذا أفضل نظام حالياً حتى نجد ماهو أفضل.
دعنا نخرج من دائرة البحث العلمي إلى الدائرة الأوسع وهي علاقات الناس ببعضها، إذا نظرت إلى مناقشة أي موضوع على شبكات التواصل الاجتماعي فمن النادر جداً أن تجد أي نقد بل كل ما تجده هو هجوم لأن الناس لا تستخدم تفكير نقدي ويتكلمون من باب الهوى والعاطفة فهل يمكن أن نتطبق ولو بعض من طرق المجتمع العلمي في كل مناقشاتنا؟ مثلاً نحاول تتبع المعلومة أو سؤال متخصصين أو التجرد من الهوى ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ... هذا ليس سهلاً ولكن لنحاول.