رمضان ليس فقط شهر الصيام لكنه الشهر الذى يعتقد كثر من المصريين والمصريات أن الدعاء المخلص لله فيه هو دعاء مستجاب، ولحسن الحظ يتوافق شهر رمضان هذا العام مع بدء الصيام الكبير لدى أخواتنا وإخواننا المصريين المسيحيين، ونظرًا لأن مشاغل الشعب المصرى فى أغلبها مشتركة، فعندما يتضافر المسيحيون والمسلمون فى الدعاء بأن يساعدهم الله عز وجل فى تخفيف عبء هذه المشاكل العامة، فأملهم أن تصل رسائلهم إلى السماء، وأن تكون الاستجابة بتخفيف أعباء هذه المشاكل عليهم.
طبعا سيتساءل البعض عن أى مشاكل أتحدث؟ ألم تبرم مصر مع شركة إماراتية عقدًا يضخ فى شهوره الأولى فى مصر خمسة وثلاثين مليار دولار، ويعد بأن تحصل مصر بموجبه خمسة وثلاثين بالمائة سنويًا من أرباح مشروعه الطموح فى المستقبل، كما أن الحكومة المصرية توشك على التوقيع على اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولى ستحصل بموجبه على ثمانية مليارات من الدولارات، ويعقبه ضخ مليارات تتجاوز العشر من كل من البنك الدولى والاتحاد الأوروبى وشركاء مصر الاقتصاديين خصوصًا من بين دول الخليج؟
كنا نخشى منذ أسابيع ضيق ذات اليد الحكومية من العملات الدولية، ونخشى ألا نتمكن من سداد أقساط وخدمة الدين الخارجى المستحقة هذا العام، وها نحن على وشك استقبال عشرات المليارات من الدولارات، فكيف لا نسعد؟! وبدلًا من أن ندعو السماء لتخفيف أعبائنا نتقدم لها بالشكر الجزيل على أنها أخرجتنا من حال القنوط واليأس إلى حال من التفاؤل والثقة فى المستقبل.
كما أنه بالنسبة لمناطق الصراع حول كل حدودنا، لا تتوانى الدبلوماسية المصرية عن بذل كل جهودها للتوصل إلى حلول سياسية لهذه المشكلات. المساعدات الغذائية للأخوات والإخوة الفلسطينيين تتدفق عبر ممر رفح، والقوات الجوية المصرية تسقط هذه المعونات عليهم فى غزة، ناهينا عن جهود التوصل إلى هدنة تشترك فيها مصر، وهى جهود مستمرة، كما تتواصل اتصالات الحكومة المصرية مع كل الأطراف المتصارعة فى السودان وليبيا.
بالفعل، لا يملك أى مراقب منصف إلا وأن يعترف بأن الموقف الاقتصادى يفتح بابًا للأمل، وأن الأوضاع حول مصر تتحكم فيها أطراف إقليمية ودولية تتواصل معها مصر، وقد لا تكون هناك بدائل أخرى سهلة لما تقوم به الحكومة المصرية بالفعل، لكن نفس المراقب المنصف سوف يدرك أن كل ما يبعث على الأمل يأتى أيضًا بتحديات هائلة ربما نحتاج فيها عون السماء حتى نستطيع أن نواجهها بنجاح. لن أستطيع مناقشة هذه التحديات بالتفصيل الذى لا يسمح به هذا المقال، ولا تسمح به سعة صدر القراء الصائمين الذين يودون سماع أو قراءة ما يخفف عنهم صبرهم على الجوع والعطش فى هذا الشهر الكريم.
اتفاق صندوق النقد الدولى
هناك بكل تأكيد أمور جيدة فى هذا الاتفاق، منها الإصرار على مبدأ وحدة الموازنة، فلا يكون أكثر من نصف إيرادات الدولة المصرية خارجة عن الموازنة التى تعدها وزارة المالية، ومنها تخفيف قبضة أجهزة الدولة على نشاط الإنتاج والخدمات، وهى التى لا تعتبر إدارة الاقتصاد واحدة من مهامها الأساسية، لكن النتيجة التى تترتب على هذا الاتفاق هى دخول الاقتصاد المصرى فى مرحلة انكماش يقل فيها معدل النمو، وتزداد صعوبة توفير فرص عمل كريمة للمواطنين والمواطنات أو تخفيف حدة الفقر الذى يصيب فى الوقت الحاضر أكثر بكثير من ثلثهم وفقًا لإحصائيات رسمية سابقة.
هذا الانكماش هو ناتج حتمًا عن دعوة الصندوق للحكومة المصرية بأن تتشدد فى سياساتها النقدية والمالية. ورأينا بالفعل استجابة الحكومة لهذا المطلب برفع معدل الفائدة لدى البنوك إلى ٢٧.٥ فى المائة، وهو ما يرهق أصحاب المشروعات فى كل قطاعات الاقتصاد، كما أن الإدارة المرنة لسعر الصرف خفضت من قيمة الجنيه، وزادت بالتالى ما يمكن أن يدفعه أصحاب الأعمال هؤلاء للحصول على الدولارات، وحتى لو كانت العملات الأجنبية متوافرة لدى البنوك، وليس ذلك بالمؤكد على الأقل فى الأجل القصير، فقد لا يتمكن أصحاب المشروعات هؤلاء من توفير ما يلزم لشراء حاجاتهم من العملات الأجنبية لتمويل مستلزمات الإنتاج المستوردة الضرورية لإنتاجهم. فضلًا عن أن رفع سعر الدولار سوف يؤدى بالضرورة إلى رفع أسعار السلع الوسيطة والأغذية والأدوية التى نستوردها من الخارج، ويُضعف طبعًا القوة الشرائية للأفراد، ولذلك فبدلًا من أن يؤدى هذا الاتفاق إلى دفع التنمية فى مصر فهو، وهذا شبه مؤكد فى الأجل القصير، فإنه يدخل الاقتصاد فى مرحلة كساد مقترن بالتضخم، سوف نعانى منه مستهلكين ومنتجين.
لا ينكر أحد أن المصدرين سوف يستفيدون من خفض أسعار السلع المصرية القابلة للتصدير. لكن معظم إنتاجنا يتوجه للسوق المحلية، وسوف يقتضى الأمر قفزة هائلة فى حجم صادراتنا حتى يمكن تغطية الفجوة الهائلة بين وارداتنا التى تتجاوز فى الوقت الحاضر قيمة صادراتنا بمقدار الضعف تقريبًا.
مشروع رأس الحكمة
لا شك أن الاتفاق على هذا المشروع يسهم فى منح الاقتصاد المصرى فترة التقاط أنفاس، فبدلًا من تحمل ذلك الهم المقيم حول كيفية سداد التزاماتنا الخارجية هذا العام، فإنه سيوفر وخلال شهرين ــ كما صرحت الحكومة ــ بما يكفى على الأقل للتخفيف من هذا العبء. لا يستطيع أحد أن يجزم بالقدر الذى سينخفض فيه عبء سداد قيمة الأقساط وخدمة الدين الخارجى هذا العام، والذى تتفاوت تقديرات كل التزاماتنا الخارجية تفاوتًا واسعًا يتراوح بين ٢٤ مليار دولار و٤٢ مليارًا و٦٩ مليارًا عندما ندخل ما يجب دفعه لشركات البترول الأجنبية العاملة فى مصر وترحيل أرباح المستثمرين الأجانب، لكن تثور تساؤلات مهمة لا تشفع فى الإجابة عنها قلة المعلومات التى كشفت عنها الحكومة بالنسبة لهذا المشروع؛ فما هو أولًا الأساس القانونى لبيع الحكومة مساحة واسعة تصل إلى 170 مليون متر مربع؟
حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يُناقش هذا المشروع فى مجلس النواب، ولم يصدر بشأنه قانون، ولذلك نحن لا نعرف الأساس القانونى الذى استند إليه. صحيح أشارت بعض التقارير الصحفية إلى أن الأراضى التى تخلت عنها الحكومة للشركة القابضة التى ستدير المشروع هى من بين الأراضى الخاصة بإحدى الوزارات السيادية، ويتعلق التساؤل الثانى بما إذا كان هذا المشروع يشكل خروجًا عن نمط النشاط الاقتصادى الذى أصبح النشاط الأثير للدولة ولشركات القطاع الخاص الكبرى، وهو ببساطة الاتجار بالأراضى، الحكومة تبيع الأراضى فى العاصمة الإدارية وفى العاصمة الصيفية فى العلمين، وتحتجز هذه الإيرادات بعيدًا عن موازنة الدولة، والشركات الكبرى فى القطاع الخاص هى شركات المقاولات التى تحصل على الأراضى من الدولة، وتبيعها للمواطنين فى صورة مساحات يقومون ببنائها للسكن أو العمل أو فى صورة مساكن فاخرة وشقق سكنية فى المنتجعات الجديدة فى المدن الكبرى والساحل الشمالى.
وهكذا بدلًا من أن تنشغل الحكومة بدفع التنمية الصحيحة بالقفز بالإنتاج الصناعى والزراعى والخدمات الإنتاجية نجد الحكومة بكل أجهزتها ومعها الشركات الكبرى فى القطاع الخاص منهمكة فى الاتجار بالأراضى، ولذلك تصبح قطاعات الزراعة والصناعة التحويلية هى من أقل القطاعات نموًا، بينما هى تحديدًا ما تتطلبه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهى التى تكفل سد الفجوة بين وارداتنا وصادراتنا على نحو يجنبنا الوقوع فى أزمة المديونية التى لا نعرف كيف سنخرج منها، فبعد دفع ٣٥ مليار دولار من الشركة القابضة لهذا المشروع هذا العام، علينا أن ننتظر اكتمال المشروع، والذى سيستغرق سنوات، لكن نحصل منه على ٣٥٪ من أرباحه، وذلك بعد أن تعيننا الحيل فى سداد المديونية الخارجية المستحقة هذا العام.
صحيح أن مخطط مشروع رأس الحكمة يتضمن منطقة صناعات متقدمة، لكن خبرة كل الشركات الداخلة فى المشروع تقتصر على إقامة المنتجعات الفاخرة، والدعاية للمشروع تركز على ما سيشيده من منتجعات فاخرة وسلسلة فنادق عالمية ومرسى لليخوت ومطار لاستقبال السياح، ولا توجد أى تفاصيل عن هذه المنطقة الصناعية. ومع الاعتراف بأن هذا المشروع يمكن أن يولد طلبًا على منتجات شركات البناء والطرق، ويزيد بالتالى من الطلب على العمالة فى هذه الشركات إلا أن ذلك لا ينفى أن مشروع رأس الحكمة على ضخامته وطموحه هو استمرار لنفس توجه السياسات الاقتصادية طوال السنوات العشر الأخيرة، بينما يدعو خبراء الاقتصاد إلى الخروج عن هذا النمط الذى أورثنا الوضع الاقتصادى المأزوم الذى شكل همنا الكبير طوال الشهور الماضية، وهناك فهم مهم للتنمية يسعى لإدماج المجتمعات التقليدية فى عملية التنمية بحيث تستفيد منهم ويستفيدون منها.
لن يضير مشروع رأس الحكمة الإبقاء على المجتمعات التقليدية فى المساحة المخصصة له مع تطويرها، وتصبح هى بدورها منطقة جذب فيه. أذكر أنه أثناء زيارتى لمدينة الدوحة، عاصمة قطر، وهى مدينة ناطحات سحاب، كان زوارها ومواطنوها ومواطناتها يجدون سعادتهم عندما يتجولون ويترددون على مقاهى ومطاعم الحى الذى أعيد بناؤه ليضاهى الدوحة القديمة، وهذا هو الدرس الذى تعلمته من خبراء تخطيط المدن الإيطاليين، الذين عملت معهم سنتين فى روما. كانوا يرون أن تطوير الأحياء والمدن القديمة هو بالحفاظ على طابعها واستمراره إلى جانب الأحياء والمدن الجديدة.
دعاؤنا إلى العزيز المجيب فى رمضان
لعل القراء الأعزاء والقارئات العزيزات يدركون ويدركن لماذا أجد أن شهر رمضان هو الشهر المناسب لكى نتوجه فيه إلى العزيز الكريم مسلمين ومسيحيين بالدعاء أن يمكننا من أن نواجه هذه التحديات الداخلية فى مصر وتحديات الحرب الوحشية التى تشنها إسرائيل على أشقائنا وشقيقاتنا فى غزة، فلا سبيل لنا للصمود والانتصار على هذه التحديات الجسام إلا بفضله، لكن علينا أن ندرك أيضًا أن الإرادة الإلهية تكافئ فقط من يعملون، ولذلك علينا نحن أن نجتهد حتى نستحق عون السماء.