بعدما تمكنت دول أوروبا الغربية من التعافى من آثار الحرب العالمية الثانية والقيام بإعادة البناء والإعمار، مستغلة مشروع مارشال للمساعدات الأمريكية، ومستفيدة من البيئة المواتية التى أتاحها لها نظام النقد الدولى القائم على اتفاقية بريتون وودز، والذى بات الدولار بموجبه يقوم بدور محورى فى الاقتصاد العالمى كعملة احتياط دولية، أخذت عاما بعد عام تتراكم لدى البنوك المركزية الأوروبية التى توجهت لتحويلها إلى الذهب.
ولم يمض وقت طويل على هذا التوجه حتى تفاقمت الأوضاع بعد ارتفاع سعر أوقية الذهب فى سوق لندن إلى 40 دولارا بعد تصاعد المضاربة على الذهب وزيادة الطلب عليه، فعقدت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية مؤتمرا فى مدينة بال السويسرية، وأقر المجتمعون إنشاء مجمع الذهب كصندوق دولى مهمته تثبيت سعر الذهب، مع تعهد من الدول الأوروبية المشاركة ألا تطلب من بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى تحويل أرصدتها الدولارية إلى ذهب، لكن ذلك النظام لم يستمر وحل محله نظام السعرين للذهب، سعر رسمى بين البنوك المركزية الأوروبية والولايات المتحدة، وسعر آخر تحدده آليات السوق العالمية.
من جهتها استمرت دول غرب أوروبا فى قبول الدولار فى ظل استمرار تعهد الولايات المتحدة بتحويله إلى الذهب، بل ومضت الدول الأوروبية إلى أبعد من ذلك عندما فضل العديد منها عدم طلب تحويل أرصدتها الدولارية إلى الذهب، واستثمرتها بدلا من ذلك فى سندات الخزانة الأمريكية للاستفادة من أسعار الفائدة.
فى تلك المرحلة كان دخول الولايات المتحدة حرب فيتنام والنفقات الباهظة للحرب، وتزايد عجز ميزان المدفوعات الأمريكى من جهة أخرى، مع تزايد توجهات الشركات متعددة الجنسية نحو المزيد من الاستثمارات العالمية، وفى ظل الآليات القائمة أصلا بموجب نظام بريتون وودز للنقد الدولى، عززت جميع تلك العوامل استمرار الدولار كمصدر رئيسى للسيولة النقدية الدولية، ولم يزعج ذلك دول أوروبا الغربية التى كانت مصالحها واستراتيجياتها ترتبط ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة الحليف الأقوى، الذى يشاركها فى تطبيق ذات المفاهيم الرأسمالية، وتتفق مصالحها معه فى الإبقاء على الموارد الاقتصادية والأسواق العالمية تحت سيطرتها ولصالحها، والإبقاء على علاقات التبادل غير المتكافئ مع غيرها من الدول ولاسيما النامية منها.
• • •
كان نظام النقد الدولى القائم آنذاك يمثل إحدى آليات إبقاء هيكل الاقتصاد العالمى فى قبضة الهيمنة الغربية، التى حرصت على مواصلة الحصول على احتياجاتها من النفط والمواد الخام من الدول النامية بأسعار رخيصة، وكذلك حرصت على إبقاء الأسواق مفتوحة دون عوائق أمام منتجاتها وصادراتها، وأمام شركاتها ورءوس أموالها للاستثمار، فبات نظام النقد الدولى القائم بآلياته ومؤسساته لا يمنح قروضه وتسهيلاته إلا لمن يسمع ويطيع من الدول ويتحالف سياسيا وعسكريا مع العالم الغربى، ولمن يلتزم بالآليات الرأسمالية واقتصاد السوق المفتوحة والتجارة الخارجية غير المقيدة.
آنذاك كانت العديد من الدول النامية تعتمد اعتمادا شبه كلى على تصدير المواد الخام والمنتجات الأولية كمصدر رئيسى للدخل، وفى الوقت الذى اكتملت فيه عمليات إعادة الإعمار فى أوروبا، أخذ التوجه الإنتاجى يتحول بدرجة ملموسة نحو المنتجات المعمرة والمعدات الإنتاجية، كما أحدث التقدم التكنولوجى أثره فى تقليل استخدام المواد والمدخلات بدرجة كبيرة، وظهرت المواد الصناعية مثل البلاستيك والمطاط الصناعى والألياف كمدخلات استغنت قطاعات الإنتاج بها عن العديد من المواد الخام وقللت طلبها عليها، كما أخذت دول أوروبا الغربية فى إنتاج وتصدير إنتاجها الزراعى المنافس لإنتاج الدول النامية فى هذا المجال، ولم تكتف بذلك بل فرضت قيودا ومواصفات ومعايير حمائية لإنتاجها فى مواجهة صادرات الدول النامية، التى تراجعت كميات صادراتها بدرجة ملموسة.
واشتدت وطأة الأمور على الدول النامية إثر تراجع إيراداتها التصديرية من النقد الأجنبى بعد تراجع أسعار المواد الأولية بفعل انكماش الطلب عليها، وتدهورت فى ذات الإطار شروط التجارة لغير صالحها بفعل تدهور العلاقة النسبية بين أسعار صادراتها ووارداتها، فتفاقم العجز فى ميزان مدفوعاتها، وتدهور الأمر أكثر بعدما تدهورت القوة الشرائية للعملات التى تبيع بها منتجاتها مثل الدولار والإسترلينى والفرنك بفعل مستويات التضخم المرتفعة فى الدول الصناعية فى تلك الفترة.
كانت تلك فرصة للولايات المتحدة وحلفائها للضغط على الدول النامية لانتهاج الآليات الرأسمالية وفتح المجال للشركات متعددة الجنسية، وإلغاء القيود على التحويلات للخارج وفتح الأسواق وإلغاء القيود على التجارة الخارجية، فى مقابل قيام صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بتغطية احتياجاتها من السيولة وإتاحة القروض التنموية، ولما كانت السياسة والاقتصاد وجهى عملة واحدة، فقد كان الثمن المطلوب من تلك الدول هو الإذعان والخضوع السياسى والقبول بالتعاون والتحالف والقواعد العسكرية، وهو ما رفضته دول عريقة مثل مصر فى ملحمتها الخالدة لتمويل وبناء السد العالى.
وفى ذات الوقت اقتصرت استثمارات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على المجالات ذات العلاقة بمصالحها الاقتصادية البحتة مثل استثمارات الشركات متعددة الجنسية والشركات الكبرى فى القطاعات الاستخراجية المربحة مثل النفط والذهب والماس واليورانيوم والمعادن، وكذلك الاستثمارات فى مجالات إنتاجية وتجارية مربحة وفى دول بعينها من الداخلة معها فى تحالفات عسكرية واتفاقات دفاع مشترك، أو تدور فى فلكها، وبما يخدم السياسة الغربية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين والخليج العربى وبعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا الغنية بالموارد والثروات التى تخدم الاقتصاد الغربى وقطاعاته الإنتاجية.
وهكذا لم يكن أمام الدول النامية إلا اللجوء للقروض الخارجية والتى باتت مصدرا للسيولة وتغطية احتياجات تلك الدول، بشروط وفوائد باهظة، ولم تلبث أعباء خدمة الدين أن بات حملا ثقيلا على كاهل اقتصادها وطوقا غليظا يحيط بأعناقها.
• • •
وبعدما باتت صورة الاقتصاديات الغربية وسياساتها الاستغلالية غير المتكافئة وغير العادلة جلية واضحة، سعى هؤلاء لتجميل صورتهم، فحددت الأمم المتحدة فى عقد التنمية الأول أن تخصص مجموعة الدول الصناعية 1% من دخلها وتقديمها كمعونات اقتصادية ميسرة للدول النامية، وبالطبع كانت جميعها معونات ومساعدات مشروطة مقيدة، لم تؤت بثمار تذكر ولا أحدثت تنمية حقيقية يشار إليها.
وبمرور السنوات والتطورات والأحداث السياسية، ومع تورط الولايات المتحدة فى مستنقع الحرب الفيتنامية، وتوسع الإنفاق العسكرى الأمريكى بدرجة كبيرة، ظهر عجز الميزان التجارى الأمريكى مصحوبا بارتفاع مستويات التضخم فى الولايات المتحدة، كانت دول أوروبا الغربية واليابان قد حققت نموا اقتصاديا مشهودا، فى الوقت الذى استخدمت فيه عملاتها القوية فى تسوية المعاملات الدولية، وحققت موازين مدفوعاتها فوائض كبيرة وتراكمت لديها احتياطيات هائلة من الدولار.
بيد أن كل ذلك لم يكن ذا أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، التى واصلت طباعة المزيد من الدولار، ولماذا لا تطبع المزيد والمزيد، وقد أتاح لها نظام النقد الدولى واتفاقية بريتون وودز أن تفعل ذلك باطمئنان لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها باعتبار الدولار عملة السيولة الدولية المحورية، وباعتبار أن دول العالم تقبلها كغطاء اعتمادا على قابليته للتحويل إلى ذهب، ومن ثم باتت الولايات المتحدة تتوسع فى إصدار الدولار، وباتت فى ذات الوقت تنقل التضخم المرتبط بتوسعها النقدى إلى جميع أنحاء العالم، دون ثمن حقيقى يتكبده الاقتصاد الأمريكى.
وقد أدرك الاقتصاديون الأوروبيون تلك الحقيقة، بعد أن بات التضخم المستورد بسبب التوسع النقدى الأمريكى يهدد النمو فى الاقتصادات الغربية واستقرارها، وأشار الاقتصاديون الفرنسيون على الرئيس ديجول فى 1968 بطلب تحويل ما لدى فرنسا من أرصدة دولارية إلى ما يعادلها من الذهب من الولايات المتحدة، وسرعان ما توجهت بقية الدول الأوروبية ذات التوجه، فارتفعت أسعار الذهب فى الأسواق الحرة، وفشل مجمع الذهب فى وقف المضاربات على الذهب، وخسرت الولايات المتحدة 2 بليون دولار لإمداد مجمع الذهب بكميات إضافية لتهدئة الأحوال.
ولم تلبث أن تكشفت الحقيقة الصادمة من أن الأرصدة الدولارية المتراكمة لدى الدول تقدر بنحو 35 بليون دولار، فى حين كانت الأرصدة الذهبية الأمريكية لا تزيد عن 11 بليون دولار، فتم إلغاء مجمع الذهب وطلبت الولايات المتحدة من البنوك المركزية الأوروبية عدم طلب تحويل الأرصدة الدولارية لديها إلا عند الضرورة وبكميات محددة مع بيان الأسباب، وبذلك فقد ألغيت بالفعل قابلية تحويل الدولار إلى ذهب اعتبارا من اجتماع واشنطون 1968 دون إعلان رسمى بذلك، ومن جهة أخرى تصاعدت حمى المضاربة على الذهب والعملات واتسع نطاق حركة رؤوس الأموال الساخنة المضاربة.
وفى الشهور التالية وبرغم محاولات الحكومة الأمريكية تصحيح الأوضاع داخل الاقتصاد الأمريكى، إلا أنه مع ظهور الكساد التضخمى فيها، أخذت رءوس الأموال تتدفق إلى أوروبا الغربية بفعل ارتفاع أسعار الفائدة الأوروبية وخاصة فى ألمانيا الاتحادية، فتدفقت بلايين الدولارات إلى أوروبا الغربية بحلول مايو 1971.
ووصلت الأمور إلى ذروتها فى الولايات المتحدة مع إعلان حجم العجز فى ميزان المدفوعات الأمريكى عن الربع الثانى من عام 1971 وانخفاض الاحتياطيات الأمريكية، ليزداد نزوح الدولار إلى خارج الولايات المتحدة وتتأجج عمليات المضاربة عليه، مع زيادة الطلب على الذهب، وانتهى الأمر بأن ظهر الرئيس نيكسون فى 15 أغسطس 1971 فى أحد أشهر الخطب فى التاريخ ليعلن رسميا إيقاف الولايات المتحدة تحويل الدولار إلى الذهب.