استغرق الأمر أربعة عشر عامًا كاملة لإتمام تنفيذ عملية «الربيع العربى» فى سوريا وتغيير نظام الحكم فيها، والمتأمل فى مجمل الصورة يمكنه تبين الدور التركى الفاعل فى إعداد وتنفيذ وإخراج سيناريو الأحداث منذ اليوم الأول حتى اليوم الأخير، بحيث يمكن رصد بصماتها وتحديدها فى كل مرحلة.
فقد بادرت تركيا منذ اليوم الأول إلى توجيه الانتقادات للدولة السورية، وأسهمت فى اتخاذ المظاهرات السلمية مسار المواجهة المسلحة، ثم شجعت انشقاق الضباط والجنود وكونت منهم ما يُسمى ميليشيات «الجيش الحر»، ودعمت فى ذات الإطار كل الميليشيات الإسلامية المسلحة، مثل «جيش الفتح»، وهو تحالف جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة فى سوريا، ودعمت «جبهة أحرار الشام» و«فيلق الشام» وغيرها، من خلال تقديم الدعم المالى واللوجستى والاستخباراتى والعسكرى، بالتعاون مع الولايات المتحدة وعدة دول شرق أوسطية عربية، للأسف.
وفى هذا الإطار، قامت المطارات التركية فى غازى عنتاب، وماردين، وأنطاليا، وديار بكر، وميرسين، طوال السنوات الأولى للأحداث، بدور المعبر الدولى لأكثر من 300 ألف مقاتل من الجهاديين المتطرفين الذين تم حشدهم واجتذابهم من أكثر من 80 دولة، وإغراؤهم بالقدوم إلى سوريا للقتال والجهاد بدعوى إقامة دولة الخلافة الإسلامية فى العراق والشام. بالإضافة إلى قيام هذه المطارات بالدور اللوجستى فى نقل كل أنواع السلاح والعتاد المُرسل إلى تلك الميليشيات لقتال الجيش العربى السورى.
أيضًا، أقيمت القواعد فى تركيا لاستقبال عشرات الآلاف من المقاتلين من مسلحى الحزب الإسلامى التركستانى الأويجور الصينيين، الذين استُقدموا من غرب الصين كمقاتلين جهاديين. أما تنظيم داعش فقد تحرك أفراده بعشرات الآلاف عبر الحدود السورية-التركية لنقل آلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر والعتاد إلى الداخل السورى منذ بدايات الأزمة، وبعلم تركيا وتنسيقها، وتم إنشاء ما يُسمى بـ«الطريق الجهادى السريع» الممتد على طول الحدود السورية-التركية، مع قيام المستشفيات فى جنوب شرق تركيا بعلاجهم مع غيرهم من مقاتلى الميليشيات.
• • •
الدور التركى فى سوريا يقوم على رؤية تاريخية تعتبر أن سوريا جزء من المجال الاستراتيجى التركى تاريخيًّا، كما أن "الميثاق المللي" التركى يعتبر أن مناطق شمال سوريا كلها، بما فيها مدينة حلب كبرى المدن السورية، هى مناطق تركية. وليس أدل على ذلك من قيام الميليشيات السورية برفع العلم التركى على قلعة حلب بعد اقتحامهم المدينة فى الأيام الأولى لتحركهم من قواعدهم نحو شمال سوريا، تلتها توجهات تركية بإقامة عدة قواعد عسكرية فى أنحاء مختلفة من سوريا.
أيضًا، كان أحد أهداف السياسة التركية فى تلك المرحلة – ما زال – يتمثل فى إقامة شريط أمنى عازل على طول الحدود السورية-التركية بطول 900 كيلومتر، وبعمق 40 كيلومترًا داخل الأراضى السورية، لمواجهة الميليشيات الكردية التى تبلغ أعدادها قرابة 84 ألف مقاتل، سلحتهم الولايات المتحدة بمختلف أنواع السلاح والعتاد لإقامة كيان كردى انفصالى عن الدولة السورية شرق الفرات، وهو الهاجس الأول للأتراك، فكان لا بد من انخراطهم المباشر فى الأزمة السورية لتوجيه دفة الأمور بما يخدم مصالحهم.
• ••
قامت تركيا بدور كبير فى الوصول بسوريا إلى الوضع الراهن، بعد أن أعادت أجهزتها الأمنية تدريب وتأهيل فصائل المعارضة السورية، وتجميل صورة قادتها، وتحويل العديد منهم من مقاتلى تنظيمات القاعدة وداعش والنصرة، إلى مقاتلين معارضين ثوريين وقادة سياسيين، تم تدريبهم وتعليمهم وتلقينهم ما سيُعلنونه للعالم من بيانات وتصريحات، وما سينتهجونه من سياسات محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، بما يتفق مع الرؤى الاستراتيجية التركية.
وعلى المستوى الدولى، حققت تركيا أهدافًا استراتيجية لحلفائها، حيث تماهت السياسة التركية فى سوريا مع السياسات الأمريكية والغربية والإسرائيلية، الهادفة إلى القضاء على محور المقاومة، وإخراج سوريا من معادلة الصراع العربى-الإسرائيلى، بالإضافة إلى إخراج روسيا وإيران نهائيًّا من سوريا، وخروجهما كطرفين خاسرين دوليًّا وإقليميًّا.
الطرف الرابح من كل ذلك كان الكيان الصهيونى، الذى استغل الأحداث واستولى على قرابة 1000 كم² من الأراضى السورية ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة، فى جبل الشيخ وهضبة الجولان والقنيطرة، والتى تتيح له تحقيق الاستطلاع والرصد الرادارى والنيرانى على جنوب سوريا، ووضع العاصمة دمشق تحت السيطرة النيرانية الإسرائيلية، بما يضع القوات الإسرائيلية على مسافة نصف ساعة من قلب دمشق. وأحكمت إسرائيل بذلك قبضتها على منابع نهر الأردن، لتحقق خطوة كبرى فى استراتيجيتها المائية العدوانية، والتى تتضمن التحكم فى منابع نهر اليرموك والسيطرة عليها. والمخططات الهيدرولوجية الإسرائيلية جاهزة ومُعدّة سلفًا، لكنها فقط تنتظر الوقت المناسب للتنفيذ.
• • •
أيضًا، لا يمكن إنكار البراغماتية الاقتصادية التركية، التى كانت تحصل طوال 14 عامًا على عشرات المليارات من اليورو كل عام كمساعدات من الاتحاد الأوروبى، لاستقبال المهاجرين السوريين ومنع تدفقهم إلى أوروبا. كما استفادت تركيا من هؤلاء المهاجرين فى إدخالهم سوق العمل التركى فى أصعب الأعمال وبأقل الأجور. ومع توقف تدفق المساعدات الأوروبية للاجئين السوريين فى تركيا، فقد آن الأوان لترحيلهم ومغادرتهم.
على المستوى الاقتصادى، فقد انفتحت الأبواب على مصراعيها أمام تدفق المنتجات التركية إلى الأسواق السورية، كما انفتح المجال واسعًا لشركات البناء والمقاولات التركية للدخول فى أعمال البناء والتشييد فى سوريا دون منافس.
ومن جهة أخرى، ومع اعتبار أن نظام الحكم السابق فى سوريا كان معارضًا لتنفيذ خط أنابيب الغاز القطرى-التركى، فإن الفرصة باتت اليوم مواتية لتنفيذ المشروع مع وجود حلفاء لتركيا فى سدة الحكم فى دمشق. وفى ذات الإطار، كان ضمن أول مطالب أنقرة من الإدارة الحالية فى دمشق، مطلب ترسيم الحدود البحرية التركية-السورية لتنظيم عمليات البحث والتنقيب عن النفط والغاز بين البلدين.
• • •
باتت سوريا منذ شهر ديسمبر الماضى فريسة مستباحة، قامت إسرائيل بتدمير المقدرات العسكرية السورية بالكامل، وأنهتها تمامًا من الوجود، تحت سمع وبصر التركى الذى نكص على عقبيه وتراجع عن فكرة إقامة قواعد له فى سوريا، بعد التهديدات الإسرائيلية له.
اليوم، تُنتهك سوريا جهارًا نهارًا من قِبل إسرائيل، التى قصفت قصر الشعب السورى، ومقرات وزارة الدفاع، والأجهزة الأمنية فى العاصمة دمشق، وباتت إسرائيل تعيث فسادًا فى الجنوب السورى، وتفرض حمايتها على الدروز فى السويداء، تمهيدًا لإقامة «دويلة درزية» تكون نموذجًا لما تخطط له إسرائيل فى بلاد الشام.
اليوم، تقوم إسرائيل بدور «المطرقة» على سوريا، وتركيا تقوم بدور «السندان الصامت» الذى تُثبَّت عليه الضحية.