لم تمنع تطورات الأحداث فى الشرق الأوسط إسرائيل عن مواصلة سياساتها العدوانية التوسعية الخطيرة وتثبيت احتلالها العسكرى لمناطق واسعة من جنوب سوريا وهضبة الجولان وجبل الشيخ، والقيام بأعمال بناء التحصينات والمواقع وإمدادها بكل أنواع السلاح والعتاد، محولة مقر الفرقة 24 السورية بعد إخلائه إلى معسكر حربى إسرائيلى وإنشاء تحصينات عسكرية فى محيط قرية قلعة جندل وجبل بربر بما يعزّز سيطرتها الكاملة على جبل الشيخ ويمهد للاحتلال الكامل له وضمه تماما إلى حدود الكيان.
كما يقوم الجيش الإسرائيلى فى الوقت الحالى بتعزيز تحصينات القاعدة العسكرية التى أقامها خلال الشهور الماضية شمال غرب بلدة حضر ذات الغالبية الدرزية فى ريف القنيطرة بعد إتمامه إنشاء مهبط للمروحيات فيها، وتحويل القاعدة العسكرية الأخرى فى منطقة تل أحمر غربى إلى مركز قيادة للجيش الإسرائيلى داخل الأراضى السورية لتصبح ثكنة عسكرية شديدة التحصين، من حيث المعدات وأعداد الجنود المتمركزة فيها، والإمدادات اللوجيستية المستمرة من المعدات والأسلحة بمختلف أنواعها.
بذلك وفى صمت وتعتيم كاملين وفى ظل انشغال العالم بالجرائم الإسرائيلية فى قطاع غــــزة وحربها العدوانية الحالية ضد إيران، يتحرك الجيش الإسرائيلى لتنفيذ مخطط خطير فى الجنوب السورى ربما يتجاوز فى خطورته وقائع وأحداث وتداعيات حرب يونيو 1967.
• • •
الجيش الإسرائيلى الذى يعمل بدأب مواصلا قضم واحتلال الأراضى فى جنوب سوريا طوال الشهور السبعة الماضية، منذ استغلال إسرائيل الأحداث فى سوريا وقيامها بتدمير كامل سلاح وعتاد الجيش العربى السورى ومواقعه العسكرية ومستودعاته، واحتلالها للمنطقة العازلة المتاخمة للجزء السورى من مرتفعات الجولان محتلة بذلك أكثر من 1200 كم2 من الأراضى السورية ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة.
هذه السيطرة على مرتفعات الجولان وجبل الشيخ تحقق لإسرائيل أفضلية استراتيجية كبرى للاستطلاع والرصد الرادارى والنيرانى على محافظات دمشق والقنيطرة ودرعا والسويداء وتتيح تمركز القوات الإسرائيلية على مسافة 25 كم فقط من العاصمة دمشق والتى باتت بذلك تحت السيطرة النيرانية الإسرائيلية.
من جهة أخرى فإن أنظمة الرادار الإسرائيلية فى الشمال تكون بذلك قد عالجت ثغرة رادارية كبيرة بعد استيلاء إسرائيل على مرتفعات جبل الشيخ، والتى كانت تتسبب بارتفاعها الهائل فى حدوث نقطة عمياء كبيرة للرادارات الإسرائيلية نتيجة حجب جبل الشيخ لموجاتها، الأمر الذى كان يتيح للطائرات بدون طيار الموجهة من محور المقاومة وحزب الله التحليق على ارتفاع منخفض من جنوب لبنان وضرب المستعمرات الإسرائيلية فى شمال فلسطين دون أن يتم اكتشافها.
الأهمية الاستراتيجية لجبل الشيخ لها بعد آخر هو التحكم والمراقبة والسيطرة بإطلالته على دمشق وبادية الشام والجولان وسهول حوران فى سوريا، وجبال الخليل وبحيرة طبريا وسهل الحولة وجزء من محافظة إربد فى الأردن، إضافة إلى إشرافه على كل جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع.
من جهة أخرى، يعد جبل الشيخ أحد أهم مصادر المياه لسوريا ولبنان وفلسطين والأردن، إذ تغذى ينابيعه العديد من الأنهار مثل نهر الحاصبانى الذى ينبع من السفوح الشمالية الغربية لجبل الشيخ ويصب فى لبنان، ونهر بانياس الذى ينبع من حافة جبل الشيخ فى سوريا ويصب فى فلسطين المحتلة، ونهر اللدانى الذى ينبع من سفوح جبل الشيخ وهو أحد روافد نهر الأردن العلوى، فضلا عن نهر الأردن نفسه وهو أطول الأنهار التى تنبع من جبل الشيخ.
وبإحكام إسرائيل قبضتها على منابع وروافد المياه فى جبل الشيخ، فإنها بذلك تكون قد حققت خطوة كبرى فى استراتيجيتها المائية العدوانية لتحويل مياه تلك الأنهار إلى الأراضى التى تحتلها فى فلسطين المحتلة، وهى مخططات خطيرة قائمة بالفعل وتنتظر الظروف المناسبة لتنفيذها.
• • •
الجيش الإسرائيلى الذى يعمل بدأب على تثبيت احتلاله للجنوب السورى، قام بحماية وتغطية عدة زيارات قامت بها فرق هندسية وجيولوجية تابعة لشركات نفط إسرائيلية قامت خلالها بعمليات مسح واختبارات فى الأراضى المتاخمة لشريط فض الاشتباك من جهة الجولان، قبل أن تَعبر إلى بعض النقاط المحددة داخل الجولان والجنوب السورى، حيث أجرت عمليات مسح مماثلة فى الأراضى المتاخمة لقريتَى بريقة وبير عجم، فى ما يبدو أنه تحضير لإعادة التنقيب عن النفط.
العمليات الاستكشافية الإسرائيلية للتنقيب عن النفط فى الجولان بدأت عام 1970، وتوسعت سرا طوال عقد الثمانينيات، حين حصلت شركة النفط الوطنية الإسرائيلية على ترخيص سرّى للتنقيب عن البترول فى الجولان، وتوقف ذلك عام 1992 بقرار من إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان آنذاك، حين بدأ الحديث عن مسار للمفاوضات مع دمشق.
فى عام 1997 وافق رئيس وزراء الكيان نتنياهو على استئناف عمليات الحفر الاستكشافى للنفط والغاز الطبيعى فى الجولان تحت إشراف هيئة الشركات الحكومية الإسرائيلية حيث نفذت شركة أفيك ثلاث عمليات تنقيب كبيرة فى جنوب الجولان، أعلن بعدها الجيولوجى الإسرائيلى يوفال بارتوف أن احتياطى النفط فى الجولان قد يصل إلى مليارات البراميل.
يضاف إلى المخاطر السابقة، سعى الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية لتأجيج الصراع الطائفى فى الجنوب السورى مستغلة تنوع التركيبة السكانية التاريخية فى تلك المنطقة التى تضم المسلمين السنة والدروز، وإعلان دعمها للدروز وتشجيعهم للانفصال عن الدولة السورية.
• • •
التطورات الأخيرة فى جنوب سوريا هى تطورات خطيرة بدرجة غير مسبوقة، وهى لا تتعلق فقط بسوريا، بل تتجاوزها إلى لبنان والأردن وفلسطين، مع ارتباطها بالهيمنة العسكرية الإسرائيلية شبه الكاملة بعد حل الجيش العربى السورى وتدمير قدراته، وتحجيم قدرات الجيش اللبنانى، والإصابات الجسيمة التى لحقت بمحور المقاومة والتدمير الحالى الذى تشهده القدرات الإيرانية، مقابل الجيش الإسرائيلى المدجج بالسلاح والعتاد بإمدادات لا نهائية من الولايات المتحدة.
وواقع الأمر دون مواربة أن الوضع الحالى يمثل انكشافا عسكريا عربيا غير مسبوق على محاور التماس السورى واللبنانى والأردنى مع العدو الإسرائيلى، وهو انكشاف سيشجع إسرائيل على تصعيد أطماعها فى الأراضى العربية وموارد المياه والثروات النفطية والمعدنية المحتملة فى تلك المناطق، ويشجع نزعتها الاستعمارية للتوسع والهيمنة بعد التدمير الممنهج للدول والقدرات فى منطقة الشرق الأوسط، والدعم الأمريكى اللانهائى لإسرائيل.
وبات الأمر يحتم القيام بمراجعة عربية شاملة وإعادة لتقييم الأوضاع واتخاذ الإجراءات المناسبة قبل أن يصل التغول الإسرائيلى إلى مدى أبعد وأكثر خطورة.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات