اغتيال شينزو آبي.. السياسة والدين في اليابان! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اغتيال شينزو آبي.. السياسة والدين في اليابان!

نشر فى : السبت 10 يونيو 2023 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 10 يونيو 2023 - 7:55 م
قبل أقل قليلا من عام، وتحديدا فى ٨ يوليو من العام الماضى، صُدم العالم بأخبار اغتيال رئيس الوزراء اليابانى الأسبق شينزو آبى على يد مسلح بينما كان يلقى خطبة لمساندة أحد مرشحى حزبه فى انتخابات مجلس المستشارين فى محافظة نارا الواقعة فى جنوب غرب الجزيرة الرئيسية فى البلاد «هونشو»!

كانت الصدمة سببها أن العالم ليس معتادا على سياسة الاغتيالات السياسية فى اليابان ــ رغم أن البلاد تملك تاريخا للعنف السياسى بالفعل، فـ«آبى» كان أول رئيس وزراء سابق يتم اغتياله فى اليابان منذ نحو تسعة عقود كاملة، كما أنه أول شخصية سياسية يتم اغتيالها فى البلاد منذ عملية اغتيال محافظ ناجازاكى فى أبريل من عام ٢٠٠٧!

كان أحد الأسباب الأخرى للصدمة، حتى داخل اليابان، هو شعبية رئيس الوزراء الكبيرة الذى ينحدر من أسرة سياسية مرموقة، والذى يظل صاحب أطول فترة لرئاسة وزراء اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جاء على رأس السلطة التنفيذية مرتين، الأولى من ٢٠٠٦ حتى ٢٠٠٧، أما الثانية فامتدت من ٢٠١٢ وحتى ٢٠٢٠ إذ قرر الاستقالة لأسباب صحية رغم أنه كان بإمكانه الاستمرار أطول من ذلك! تمتع آبى بعلاقات مميزة أيضا بالعديد من رؤساء وقادة العالم، مما جعل من خبر اغتياله محل اهتمام دولى كبير وانتظر كل المهتمين معرفة الجانى ودوافعه!

سرعان ما عرف العالم اسم المتهم الأوحد فى جريمة الاغتيال، وهو تيتسويا ياماجامى والذى بلغ من العمر وقت تنفيذ الاغتيال ٤١ عاما، ورغم أنه كان عاطلا عن العمل وقت القبض عليه، إلا أن المعلومات أفادت أنه سبق أن عمل فى قوات الدفاع الذاتى اليابانية، وتحديدا فى القوات البحرية مما أعطى فى البداية إيحاء أنه ربما هناك دوافع سياسية مباشرة لجريمة الاغتيال خاصة أنها تمت فى موسم الانتخابات التشريعية، لكن التحقيقات اللاحقة أظهرت أن الدافع ربما يكون شخصيا قبل أن يكون سياسيا!

حيث أخبر «ياماجامى» سلطات التحقيق أنه اغتال آبى لعلاقة أسرة الأخير بما يعرف باسم «كنيسة التوحيد» وهو الاسم المتداول لمنظمة تعرف باسم «اتحاد الأسرة للسلام والتوحيد العالميين»! مما أطلق حملة واسعة من التحقيقات فى بلاد الشمس المشرقة للكشف عن نشاط كنيسة التوحيد هذه داخل وخارج اليابان، وسبب رغبة ياماجامى فى الانتقام منها وعلاقة شينزو آبى وأسرته بكل ذلك، لتتكشف سلسلة من المفاجآت للرأى العام اليابانى والعالمى عن هذه المنظمة الدينية وشبكاتها السياسية لتشكل واحدة من أكبر الفضائح المحرجة، للحزب الليبرالى الديموقراطى الحاكم فى البلاد!
̉• • •

سبب رغبة ياماجامى فى الانتقام من كنيسة التوحيد، بحسب ما أظهرت التحقيقات، أن أنشطة الكنيسة تسببت فى إفقار أمه التى تعمل بإخلاص فى أنشطة الكنيسة فى اليابان وتغدق عليها بالتبرعات، مما أفقر الأسرة التى تعد الأم هى عائلها الوحيد بعد وفاة الأب فى الثمانينيات! بسبب تبرعات الأم للكنيسة تدهور الوضع المالى للأسرة للدرجة التى دفعتها للاستدانة، بل وتسبب هذا الوضع المالى فى عدم قدرة الأخ الأكبر لـ«ياماجامى» على دفع تكاليف علاجه من مرض سرطان الدم حتى انتحر الأخير من اليأس فى ٢٠١٥!

لكن ما هى الكنيسة التوحيدية وما هى أنشطتها التى قد تدفع أعضاءها إلى الاستدانة من أجل التبرع لها، وما علاقة رئيس الوزراء السابق آبى وأسرته بهذه الأنشطة؟
• • •

تم إنشاء الكنيسة التوحيدية فى كوريا الجنوبية، جارة اليابان وغريمتها التاريخية، فى عام ١٩٥٤ بواسطة صان مينج مون الذى ادعى أنه المسيح وأقنع أتباعه بالإخلاص لأعمال تلك الكنيسة، والتى لم تكن أنشطتها سياسية فقط، ولكنها احتكت بالسياسة مبكرا فى كل من كوريا واليابان، بل ووصل الأمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية أيضا!

فى ١٩٦٤ تعرف مينج مون على أحد رجال الأعمال اليابانيين ويدعى ريويتشى ساساكاوا حيث ساعد الأخير الأول ليس فقط فى الحصول على تراخيص الكنيسة للعمل التبشيرى فى اليابان، ولكن أيضا مكنه من إنشاء علاقات قوية مع الساسة اليابانيين وفى مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق نبوسوكى كيشى والذى هو جد شينزو آبى من ناحية الأم! كان رئيس الوزراء كيشى هو مدخل أنشطة الكنيسة وعلاقاتها القوية مع الحزب الليبرالى الديموقراطى فى اليابان، إذ عرض مون زعيم الكنيسة صفقة سياسية على كيشى حيث تقوم الكنيسة بدعم الحزب ماليا من خلال التبرعات التى تحصل عليها من أتباعها، وكذلك فى مساعدة الحزب الحصول على المزيد من الأصوات، والأهم أن الكنيسة ومؤسسها كانت ضد الفكر الشيوعى وهو ما احتاجه الحزب الحاكم بقوة فى ذلك الوقت! وفى مقابل ذلك أمن الحزب نشاط الكنيسة وساعدها على التغلب على العقبات القانونية للوجود فى اليابان كذلك ساهم فى تبنى أفكارها فى سياسة الدولة الخارجية وخاصة فى شرق آسيا!

التفت الإعلام اليابانى لخطورة دور هذه الكنيسة، ففى عام ١٩٦٧ تم تسليط الضوء عليها من قبل جريدة «أساهى» ذائعة الصيت حيث نشرت تحقيقا عن الكنيسة وصفتها بأنها مؤسسة «أصولية تجعل الآباء ينتحبون على أبنائهم» فى إشارة إلى تحكم الكنيسة فى عقلية الشباب الصغار وإقناعهم بصرف أموالهم على شراء ما يعرف باسم «السلع الروحية» كدفع مبلغ مالى كبير مقابل شراء «ختم» يعتقد بكونه مقدسا أو يجلب البركة.. إلخ. كذلك فقد كان المنتسبون للكنيسة يطرقون البيوت ويدعون أنهم رأوا فى الحلم الأقارب الموتى لمن يطرقون بيوتهم وأن هؤلاء المؤتى يطالبون أهل المنزل بدفع مبالغ مالية كى تحل البركة على أرواحهم وينعمون فى الملكوت! ربما تبدو حيلة ساذجة، لكن التقديرات تقول إن آلاف الأسر قد وقعت ضحية لمثل هذه الأفعال ومنهم من تم غسل عقله تماما فأغدق كل ماله على أنشطتهم، وعلى ما يبدو أن من ضمن هؤلاء أم ياماجامى التى أسهمت فى إفلاس الأسرة بسبب التبرعات للكنيسة!

فى الولايات المتحدة كانت الكنيسة محل جدل كبير، بل ومحل تحقيق من الكونجرس الأمريكى فيما عرف بفضيحة «كوريا جيت» تشبها بالفضيحة الأشهر «ووتر جيت»!، حيث بدأ الكونجرس تحقيقاته عام ١٩٧٦ بشأن تلقى أعضاء فى الكونجرس أموالا من الكنيسة بطرق غير شرعية! انتهى التحقيق بتقرير «فريزر» الذى أكد تورط أعضاء من الكونجرس فى تلقى أموال من الكنيسة عن طريق وسيط كورى مقرب من الحاكم العسكرى لكوريا الجنوبية آنذاك «الجنرال بارك» للتأثير على قرار الرئيس الأمريكى نيكسون لعدم سحب بعض القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية وهو ما قد ألمح له نيكسون فى زيارته الشهيرة إلى بكين فى ١٩٧٢! اتهم التقرير الكنيسة والوسيط الكورى بالعمل لصالح المخابرات الكورية بهدف التأثير فى صنع القرار الأمريكى!

رغم انقطاع تأثير الكنيسة التوحيدية على دوائر صنع القرار الأمريكى بعد فضيحة «كوريا جيت» إلا أن مصير الكنيسة كان مختلفا فى اليابان حيث استمرت فى العمل والتأثير فى السياسة اليابانية بحكم علاقاتها القوية بالحزب الحاكم هناك! بحسب التقارير فوالد شينزو آبى (شنتارو آبى) والذى تولى عدة مناصب وزارية فى الثمانينيات، كان أهمها منصب وزير الخارجية من ١٩٨٢ وحتى ١٩٨٦ ورث عن حماه (رئيس الوزراء الأسبق كيشى) علاقاته القوية بالكنيسة، وهو ما ورثه شينزو آبى عن أبيه وجده!
• • •

أظهرت التقارير الإعلامية المقربة من مصادر التحقيق فى جريمة اغتيال شينزو آبى حجم تورط الحزب الديموقراطى الليبرالى الحاكم مع الكنيسة، إذ أعلن السكرتير العام للحزب توشيميتسو موتيجى فى مؤتمر صحفى عقده فى سبتمبر الماضى أن تحقيقات الحزب الداخلية بعد اغتيال آبى والتى تكشف علاقات أسرته بالكنيسة أظهرت أن ١٧٩ عضوا برلمانيا عن الحزب متورط بأنشطة وعلاقات (ضمنها الحصول على تمويل ودعم انتخابى) مع الكنيسة المذكورة أو مؤسسات مرتبطة بها خلال الدورة البرلمانية السابقة! كما أظهرت التحقيقات أيضا أن عددا من قادة الحزب التاريخيين قد سافروا أو طلب منهم السفر إلى كوريا لحضور عظات للكنيسة فى مقرها الرئيسى بغض النظر عن الخلفية الدينية لهؤلاء!

بعد الفضيحة المدوية هذه أعلن الحزب رسميا طلبه من أعضائه إنهاء علاقاتهم فورا بالكنيسة وبكل أنشطتها وإلا تعرضوا للطرد والتجميد، كما مرر البرلمان اليابانى رسميا تشريعا يمنع أى أنشطة دينية للكنيسة أو لغيرها من المؤسسات المشابهة، فهل ينتهى الأمر عند هذا الحد فى هذا الفصل المثير عن العلاقة بين السياسة والدين فى اليابان الذى كشفه اغتيال شينزو آبى، أم تظهر مساحات أخرى لهذا الموضوع المسكوت عنه فى اليابان وربما فى دول آسيوية ديموقراطية أخرى؟
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر