من «النهضة» إلى «التنوير» في جامعة القاهرة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:26 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من «النهضة» إلى «التنوير» في جامعة القاهرة

نشر فى : السبت 10 يونيو 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 10 يونيو 2023 - 8:00 م
(1 )
ما يقرب من الساعتين استمعت واستمتعت فيهما بمحاضرة علمية رصينة للدكتور وليد الخشاب فى رحاب جامعة القاهرة، وفى رحاب قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب. المحاضرة كانت بعنوان «مجازا النهضة والتنوير ــ تمثلات التحديث فى تصورات المثقفين المُحْدَثين»، وهى المحاضرة التى عقدت ضمن نشاط السيمنار العلمى للأساتذة بقسم اللغة العربية الذى يديره باقتدار الصديق الدكتور محمود عبدالغفار أستاذ الأدب الحديث والأدب المقارن بالكلية، هذا التقليد العلمى والفكرى العظيم الذى أسسه هذا القسم العريق، وأساتذته الأجلاء عبر ما يزيد على القرن.

انطلق الدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا، من مجموعة أفكار وفرضيات قبل السياحة الممتعة فى نماذج من أفكار وتصورات بعض مثقفينا فى القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. ينطلق الدكتور وليد من افتراض مؤداه أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر، استقر فى أدبيات الحداثة مصطلح «النهضة» للإشارة إلى حركة التجديد والتحديث التى طالت جميع مناحى الحياة الثقافية ابتداء من مطلع القرن نفسه.

يتوقف الدكتور وليد متأملا فى مفهوم النهضة واستخداماته ويربط بين دلالاته التى استخدم بها فى أدبيات تلك الفترة ومثيلاتها فى أوروبا، ويحاول أن يستجلى أشكال العلاقة والانتقال من استخدام مفهوم النهضة إلى مفهوم التنوير، متخذا من كتابات الرائد النهضوى جورجى زيدان مادة استكشافية لهذا البحث.

(2 )
يضرب مثالا على فكرته التمييزية تلك بالرجوع إلى متن جورجى زيدان المعروف «تاريخ آداب اللغة العربية»، حيث يرى أن جورجى زيدان يعتمد هذا المصطلح ويستخدمه، ويُمَيِزُ بين مرحلة نهضة أولى من مطلع القرن التاسع عشر إلى أواخره، ونهضة حديثة من نهايات القرن التاسع عشر إلى أوائل العشرين.

يضيف الدكتور وليد على ذلك أن اليوم ــ فيما يسمى فى الغرب بمجال «دراسات النهضة» ــ يُصطلح على تسمية الفترة الممتدة من مطلع القرن التاسع عشر، إلى أواسط القرن العشرين فى العالم العربى، بعصرى النهضة المتقدمة والمتأخرة. يقول «تفحص المداخلة تبدل المجازات المعرفية التى تشير إلى المنجز الفكرى والإنتاج الثقافى فى تلك الفترة، إذ ساد مصطلح «النهضة» عَلَما عليها، حتى إذا ما جاءت نهايات القرن العشرين، ذاع استخدام مصطلح «التنوير» للإشارة إلى الفترة نفسها، بدلا من «النهضة». وتفترض المداخلة «أن المثقف العربى الحداثى قد تمثل تاريخ الفكر فى أوروبا فاعتمد «النهضة» مرادفا للمصطلح الأوروبى ( Renaissance) ثم اعتمد «التنوير» مرادفا وترجمة للمصطلح الغربى ( Enlightenment).

وقد أوضح الدكتور وليد فى محاضرته الثرية أن التحول من تسمية «النهضة» إلى تسمية «التنوير» قد تصادف وعملية إعادة تعريف لمجازات معرفية تراثية عربية. إن كانت النهضة مقاربة لـ( Renaissance) ومعناها الحرفى «الميلاد المُجَدَد»، فهى تستدعى فكرة البعث المؤسسة فى أدبيات المسيحية والإسلام. وبذلك أضمرت فكرة «النهضة» العربية أفكارا أخرى تفصلت فى مفاهيم ومسميات «الإحياء والابتداع والبعث»، وكلها تحمل معنى الخلق أو الميلاد المُجَدَد.

(3 )
وقد قادت هذه الأفكار الدكتور وليد إلى طرح أسئلة ذكية وممتازة حول علاقة فكر النهضة أو التنوير فى القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين والتراث العربى والإسلامى عموما، وكذلك قادت تلك الأسئلة إلى بحث الطريقة أو الكيفية التى تم اعتمادها فى تسييد أو فى تداول مصطلح التنوير فى الثقافة العربية المعاصرة.

ويقف الدكتور وليد متأملا محاولة المفكر والناقد الراحل جابر عصفور فى إرساء هذا المفهوم واستخدامه وتداوله، وينظر إلى ذلك من خلال النصوص التى أنتجها فى هذه الدائرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، «هوامش على دفتر التنوير» (1995)، «من أعلام التنوير» (1996)، وربما أيضا كتابه «أنوار العقل». فى عقود تالية سيعزز الدكتور جابر هذا الاستخدام بإنتاج مزيد من النصوص التى نشرها فى الفترة من 2005 وحتى رحيله فى 2021 (على سبيل المثال أيضا، للتنوير وللدولة المدنية).

(4 )
لكن قبل الوصول إلى هذه الفكرة، أو ما يمكن أن نطلق عليه «إعادة اختراع التنوير العربى» (وهى بالمناسبة عنوان مقال مهم للدكتور وليد الخشاب نشره قبل عامين فى دورية أخبار الأدب) قدم فحصا دقيقا لمسار المصطلحين «النهضة» و«التنوير» فى تاريخ الثقافة العربية؛ حيث يرى الدكتور وليد أن منظرى الحداثة العربية كانوا يتصورون حركتهم عند منعطف القرن العشرين بوصفها نهضة تماثل عصر النهضة الأوروبى، واعتمدوا مصطلح «النهضة» بما يشبه الإجماع.

يفسر الدكتور وليد هذا الإجماع بما يضمره هذا الاختيار البلاغى من أن العرب المحدثين يبنون جسورا مع تراث قديم، مثلما كان الأوروبيون فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر ــ فيما عُرِف بعصر النهضة ــ يعيدون اكتشاف التراث الإغريقى واللاتينى القديم، ويجتبون هذين المنجزين الثقافيين ومحاورهما القيمية والأخلاقية التى تُعلى من شأن الإنسان فى العالم، ليستخدموهما كإطار فكرى محدث يدعم إنتاجهم الثقافى.