خلص تقرير إحصائى حديث لفريق الباحث الاقتصادى الشهير توماس بيكيتى إلى أن البلدان العربية هى الأكثر «لا مساواة» فى العالم. ما يؤكده التقرير هو أن الـ10% الأكثر دخلا يستحوذون على 58% من مجموع الدخل، فى حين لا يحصل الـ50% الأكثر فقرا سوى على 8% من إجمالى الدخل. والوضع أسوأ بالنسبة للثروة، إذ يملك الـ1% الأكثر ثراء 44% من مجمل الثروات فى هذه البلدان؛ أى أن ثروة كل من هؤلاء الأثرياء تفوق 300 مرة ثروة أيٍ من الأكثر فقرا. هذا مع ملاحظة أن الثروة العامة الصافية، أى الملك العام ناقص الديون الخارجية، ما زال يشكل فى البلدان العربية أكثر من 30% من إجمالى الثروة الوطنية، كما فى الصين.
يلاحظ التقرير أيضا أن انعدام المساواة قد ازداد فى البلدان العربية خلال العقود الثلاثة الماضية. وتفاقم بعد أحداث «الربيع العربى» وكذلك مع أزمة وباء الكوفيد 19، سواء داخل كل بلد أو بين البلدان العربية. ويشير أن اللا مساواة الداخلية محرك رئيسى للا مساواة بين البلدان، حيث إن بلدان الخليج هى الأكثر لا مساواة داخليا.
كما يبين التقرير أن حصة النساء من الدخل فى البلدان العربية لا تتعدى 15% من مجموعه، وهى أيضا الأدنى عالميا. هذا فى حين تتخطى الـ30% فى كثير من المناطق الأخرى وتزداد تدريجيا نحو المناصفة مع الرجال. وينتج ذلك أساسا عن ضعف مشاركة النساء العربيات فى قوة العمل، دون نسيان ضعف حصتها من إجمالى الثروات.
تجدر الإشارة أن توماس بيكيتى اكتسب شهرته حين أوضح عبر دراساته الإحصائية على فترات طويلة وعلى عديدٍ من البلدان بأن اللا مساواة فى الدخل والثروة لا يمكن أن تزداد إلى ما لا نهاية، وأنها تصل فى النهاية إلى حدودٍ تؤدى إلى تفجر الصراعات الداخلية المجتمعية أو الحروب بين البلدان، بحيث يُعاد حُكما توزيع الثروة. كما ابتكر اقتصاديون سياسيون آخرون مفهوم «نفق النمو». وما يعنى أن المجتمعات يُمكِن أن تتحمل لفترة من الزمن تفاقم انعدام المساواة إذا ترافق ذلك مع نموٍ اقتصاديٍ كلى متسارع، كما فى الصين مثلا. إلا أن المخاطر تكمُن فى بقاء معدلات النمو ضعيفة فتقع البلدان فى فخٍ ما، سميَ بـ«فخ اللا مساواة» الذى يؤدى إلى «كوارث تنموية»، وما يترتب على ذلك من صراعات ونزاعات.
بالمقابل، تبقى دولة «الرعاية» هى التى تخفف من حدة اللا مساواة. فهى التى تقوم بإعادة التوزيع، وتفرِض ضرائب و«مقتطعات اجتماعية» على الأكثر دخلا وثراء، وتؤمن للأضعف حماية اجتماعية وسبلا للارتقاء وخدمات عامة. والتأكيد أن التعليم وجودته يشكل سبيلا أساسيا للصعود الاجتماعى، إلى جانب الصحة العامة وما تؤمنه من حماية أساسية للمجتمع.
• • •
بهذا الصدد، يشير تقرير للأمم المتحدة أن البلدان العربية هى الأقل إنفاقا حكوميا على الصحة نسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى، حيث تنفق ما بين 2 و3%. ثم يخلِص إلى أن «العوامل التى تدفَع إلى عدم المساواة فى المنطقة العربية تشمل الديناميات الديموغرافية وضعف التعليم والفجوات الرقمية وضعف المؤسسات والفساد والافتقار إلى الشفافية ونقص البيانات والإحصائيات وكذلك أسعار السكن الباهظة التى لا يمكن لمعظم السكان تحملها».
بالمقابل، وبالرغم من التقدم الذى حدث فى الخدمات العامة والحماية الاجتماعية منذ الاستقلال، تُعانى جميع البلدان العربية حاليا من «فخ اللا مساواة»، وما يخلق مخاطرَ فى انهيار العقد الاجتماعى الذى يربط الدولة كمؤسسة مع المجتمع. اللا مساواة نسبية. وما كان مقبولا فى العصور الوسطى لا تقبله الشعوب اليوم. وهذا ما تُبرزه وتبرهن عليه ظاهرة الهجرة «غير الشرعية» إلى بلدان «الرعاية»، رغم كل المخاطر.
بالتأكيد، لم تصبح بعض الدول «راعية» إلا عبر نضالات مجتمعاتها على الأمد الطويل، سواء عبر حركات نقابية أو عبر تحركات جماهيرية كبيرة، كما فى مسألة حقوق النساء ضمن إطار المساواة الكاملة. ومهما كان التراجع الذى يحصل اليوم فى بعضها فى ظل تطورات الرأسمالية المعولمة فإن الحقوق المكتسبة راسخة ومن العسير تقويضها.
يبقى السؤال فى الواقع الحالى عن كيفية حصول مجتمعات البلدان العربية على الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية وخدمات الارتقاء؟ إن هذه المجتمعات منقسِمة فى الدول النفطية بين مواطنين وعمال أجانب يشكلون أحيانا معظم السكان. أغلب المواطنين يحصلون على الخدمات الاجتماعية من دولهم، أما العمال الأجانب فيخضعون للاستغلال، بل يواجهون الطرد عندما يحاولون المطالبة بأدنى الحقوق.
المجتمع أيضا يُعانى من الانقسام فى الدول العربية كثيفة السكان. ذلك بين أولئك فى العواصم، حيث تتركز التنمية، والآخرون فى الأطراف الريفية المهمشة، بين طوائف وملل يثير أصحاب السلطة السياسية الخلافات المذهبية والقومية بينهم، وكذلك بين مواطنين وعمال أجانب ولاجئين وفدوا بحيث أضحوا يشكلون هنا أيضا جزءا مشهودا من السكان. وهنا تصطدم أيضا محاولات المطالبة بالحقوق والحماية بخطاب تمييزى بين أطياف المجتمع. حيث لا يُمكِن حتى محاسبة السلطة حين تأخذ إلى كارثة اقتصادية واجتماعية، كما هو الحال اليوم فى لبنان.
هذا الانقسام يضع المجتمع أمام تحدٍ ليست سهلة مواجهته. فإما المطالبة بالحقوق والحماية للجميع دون استثناء، كما هو الأمر فى دول «الرعاية»، أو الانخراط فى خطاب الشرذمة الذى لا يأتى بمكاسب اجتماعية لا للمواطنين ولا لغيرهم. هذا فى حين تتطلب المطالبة بالحقوق للجميع وعيا يتخطى تعبيرات «منظمات المجتمع المدنى» الحالية التى لا يُمكِن أن تحل محل حركة جماهيرية واسعة تصمُد فى وجه محاولات الشرذمة وتمزيق الأواصر بين البشر.
• • •
أنظمة الحماية الاجتماعية فى البلدان العربية أغلبها بالية ومتهالكة. فصناديق التأمينات والتقاعد والصحة لا تحمى سوى قلة من المشتغلين وعائلاتهم، خاصة فى القطاع الحكومى ولدى جزءٍ صغير من القطاع الخاص.. فى حين يعتمد الأكثر فقرا على مساعدات اجتماعية، تأتى كمنة، خاصة من مانحين دوليين، هدفهم فى النهاية تجنب انفجار اجتماعى كبير يؤدى إلى هجرة كثيفة نحو دول الرعاية. هذا فى حين يلجأ الأكثر ثراء لشركات التأمين الخاصة ويبقى معظم المشتغلين وعائلاتهم بين بين، خارج أنظمة الحماية، لأنهم عاملون.. غير منظمين. هذا دون أن ننسى أن أموال صناديق التأمينات والتقاعد والصحة تُهدَر ومعها حقوق أصحابها.
لا يُمكِن لهذه الأوضاع أن تستمر إلى ما لا نهاية. وعلى القائمين على حكومات البلدان العربية إصلاح منظومات الحماية الاجتماعية وخلق نظام تأمينات صحية واجتماعية أساسى لكل السكان ولكل أفراد المجتمع دون تمييز. وليس مستحيلا أيضا النهوض بالتعليم العام الأساسى كأساس للارتقاء الاجتماعى.
بالتأكيد تشكل أنظمة الحماية استثمارا حقيقيا. استثمار بات ضروريا مع الكوارث التى تحل بالبلدان العربية، وربما لا بد منه لتجنب كوارث أفدح.