لا تعجبوا أعزائى القراء من هذا العنوان؟ قد تتساءلون: ما هو أصل هذا العنوان؟ وهل من المتصور أن تسير التنمية على ساق واحدة؟ نعم، هذه العبارة تنطوى على نقد لنماذج عرفها تاريخ التنمية، وهى دعوة لنمط مغاير يتفادى الأخطاء، بل المآسى التى ارتبطت بنماذجها التاريخية. يسترشد هذا العنوان بمقولة للزعيم الصينى الراحل ماوتسى تونج قائد الثورة التى خلصت الصين من السيطرة اليابانية ومن حكم جنرالات حزب الكومنتانج الذين رحلوا بعد هزيمتهم إلى تايوان. كان ماوتسى تونج يدعو فى عبارته هذه إلى أن تتجنب الصين فى تنميتها ما شاب تجارب التنمية السابقة سواء فى أوروبا الغربية أو فى الاتحاد السوفيتى على عهد ستالين من الاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة وحدها والتغاضى عن استخدام التكنولوجيات التقليدية، وحث الحكومة الصينية والحزب الشيوعى على ضرورة الجمع بين كل من نمطى التكنولوجيا فى دفع التنمية فى الصين، لأن التكنولوجيا المتقدمة لن تكفى لتوليد فرص عمل كافية، ولن يستفيد من فرص العمل التى تولدها سوى المهندسون والعمال المهرة ورجال الإدارة أصحاب الخبرات النادرة، بينما تنجح التكنولوجيات التقليدية فى الحفاظ على عمالة واسعة فى الريف والمدينة، ويستفيد منها مواطنون كثيرون لا يتمتعون بمستوى المهارة المطلوب فى التكنولوجيات المتقدمة.
ولكن روح هذه العبارة توحى بأكثر من هذا الفهم المرتبط بالسياق الذى جرت فيه، وعلى الرغم من أن فكر ماوتسى تونج عموما ليس أحد المراجع التى يعود إليها علماء التنمية، إلا أن الاتجاهات السائدة فى فكر التنمية فى الوقت الحاضر، وخصوصا بين من يدعون إلى تنمية إنسانية، هى أكثر اتساقا مع روح هذه العبارة، والتى إذا استخلص الباحثون جميع مراميها فإنها تدعو إلى تنمية متوازنة لا تقتصر على قطاع دون آخر، ولا على نوع من المشروعات دون نوع آخر، ولا على أقلية من المواطنين على حساب أغلبيتهم، وبذلك لا تسير التنمية مسيرة عرجاء، ولكنها تسير على قدمين وثابتين.
•••
ولكن لماذا خرج ماوتسى تونج بهذه الفكرة، وهى التى استرشدت بها الصين فى نموها الذى فاق فى سرعته كل معدلات النمو التاريخية التى عرفتها كل تجارب التنمية فى العالم، والذى نقلها لتصبح ثانى اقتصاد فى العالم، بل وأول اقتصاد فى العالم فى السنوات القريبة القادمة، وجعل منها قوة عظمى ليس من حيث قدراتها العسكرية، ولكن كذلك من حيث تفوق جامعاتها ومراكزها البحثية، كل ذلك على الرغم من أن قادة الصين نحوا جانبا دعوات ماوتسى تونج للانتقال إلى المجتمع الشيوعى مباشرة وبتجاوز كل من الرأسمالية والاشتراكية؟ لقد أدرك ماوتسى تونج أن تجارب التنمية سواء فى بريطانيا أو فرنسا أو فى الاتحاد السوفيتى قد ضحت بسكان الريف فى مقابل دفع الصناعة فى المدن، وأنتج ذلك فقرا بين سكان الريف وفجوة واسعة بين المدينة والريف، وإذا كان النمو التدريجى للصناعة قد نجح فى النهاية فى امتصاص البطالة بين سكان الريف الذين رحلوا إلى المدن، إلا أن قسما من ضريبة التنمية فى تلك التجارب الرأسمالية الأولى قد دفع ثمنه سكان الريف. وكان الثمن فادحا فى الاتحاد السوفيتى السابق حيث ان تكلفة الإسراع فى إقامة الصناعات الثقيلة على عهد ستالين هو ملايين من الفلاحين الذين ماتوا إما لمقاومتهم التحول للمزارع الجماعية الضرورى لتمويل الصناعة أو بسبب ما نتج عن هذه المقاومة والاضطرابات التى ولدتها من انخفاض إنتاج الحبوب وانتشار المجاعة بين الفلاحين. أدرك ذلك ماوتسى تونج ومن ثم دعا إلى تنمية متوازنة تأخذ فى الاعتبار التكنولوجيات المتقدمة فى الصناعة، وتواصل فى نفس الوقت الاعتماد على التكنولوجيات التقليدية السائدة فى الريف. وقد عرف أن ثمار النمو فى الصناعة أو باستخدام التكنولوجيات المتقدمة لا تتساقط تلقائيا على سكان الريف أو المواطنين الفقراء، وإنما يجب أن يكون الحرص على التوازن عنصرا أصيلا فى تصميم إستراتيجيات التنمية منذ البداية، وإلا سيكون من العسير تفادى آثار السير على قدم واحدة بعد أن يكون العرج قد أحدث عاهة فى بنية الاقتصاد الوطنى.
الفهم الصحيح لما دعا إليه ماوتسى تونج وما تأخذ به كتابات التنمية الإنسانية فى الوقت الحاضر هو أن تكون التنمية الرشيدة تنمية متوازنة، لا تركز على قطاع من الاقتصاد دون آخر ولا على بقعة من الوطن دون أخرى، وإنما تحقق التوازن بين المشروعات الكبرى وقطاعات الاقتصاد الأخرى، بين الزراعة والصناعة، بين المدينة والريف، وبين رأس المال المحلى ورأس المال الأجنبى.
•••
ولكن لماذا هذا الحديث عن السير بساقين فى هذا الوقت بالذات؟ وهل هو مجرد انعكاس لافتتان الكاتب بالمغامرات الفكرية والسياسية لماوتسى تونج؟ فى الحقيقة نحن بأشد الحاجة لاستلهام فكرة التنمية الإنسانية المتوازنة ونحن مقبلون على عدد من المشروعات القومية الكبرى والتى قد تكون تجسيدا لفكرة السير بساق واحدة.
لا يمكن أولا الاستسلام لتشكك فكر التنمية فى جدوى المشروعات الكبرى، والتى أطلق عليها الفكر التنموى فى مرحلة من المراحل تعبير الأفيال البيضاء أى المشروعات ذات الاستثمارات الضخمة، والتى قد لا يكون التخطيط لها جيدا، وتصبح فيما بعد عبئا على الاقتصاد فى أسوأ الحالات أو لا تعود بالثمار الموعودة على الاقتصاد الوطنى فى أحسن الحالات. ومصنع الحديد والصلب فى حلوان هو المثل الصحيح لفكرة الأفيال البيضاء هذه. ولكن من ناحية أخرى ثانيا حتى لو كان التخطيط لهذه المشروعات الكبرى صحيحا إلا أن الفائدة منها فى الأجل القصير على الأقل سوف تعود على قسم محدود من المواطنين هم من المهندسين البارعين وكبار رجال الإدارة والعمال المهرة وسكان الإقليم الذى تنفذ فيه هذه المشروعات، بينما تبقى الأغلبية الساحقة من السكان تعانى من تدهور الخدمات وانتشار البطالة والفقر. بل إن نمو هذه الفجوة الواسعة بين المستفيدين من هذه المشروعات وبقية المواطنين يصبح عقبة بشرية واقتصادية وسياسية أمام استدامة هذه المشروعات الكبرى نفسها، فبدون تطوير التعليم والتدريب فى الوطن ككل، سيصبح من الصعب الحصول على العمالة الماهرة الضرورية لاستمرار هذه المشروعات.
ودعونا لا نتجاهل شكوى رجال الأعمال فى مصر وخصوصا فى الصناعة من عدم توافر الأيدى العاملة الماهرة، كما أنه بدون نمو الاقتصاد ككل يصبح من العسير توليد رءوس الأموال الكافية للاستثمار فى هذه المشروعات، ومن الخطر على الأمن القومى أن يكون رأس المال الغالب فى هذه المشروعات القومية هو رأس المال الأجنبى، لأن رأس المال الأجنبى له حساباته، وفى ظل اقتصاد معولم يتسم بسرعة انتقال رأس المال، فإنه كما جاء يمكن أن يذهب، كما تشهد على ذلك الأزمة المالية فى دول شرق آسيا فى سنة 1997 وتجربة عدد من دول أمريكا اللاتينية. فضلا على أن معاناة أغلبية المصريين من مشاكل حادة من تدهور أحوال البنية الأساسية فى الطاقة والمياه والطرق والمواصلات، والمأساة الكبرى فى توفير التعليم اللائق أو الرعاية الصحية الكريمة لا يجب التغاضى عنها. بل إن تجاهل هذه الحاجات الأساسية للمواطنين فى أغلبية أقاليم مصر الخارجة عن نطاق هذه المشروعات القومية الكبرى للعمل اللائق والدخل الكريم وتوافر الكهرباء والمياه النقية والسكن الملائم والخدمة التعليمية والصحية المناسبتين والميسورتين بينما تنفق الدولة على مشروعات كبرى لن يظهرعائدها سريعا، ولن يمتد عائدها فى الأجل المتوسط لأغلبية السكان، هذا التفاوت الصارخ يمكن أن يهدد الاستقرار الاجتماعى والسياسى فى الوطن.
•••
دعوتى الحارة للمسئولين عن المشروعات القومية الكبرى أن يتأملوا خطورة السير بالتنمية اعتمادا على ساق واحدة، فلا يغيب عن بالهم استنهاض الساق الأخرى، وإلا فسندفع جميعا ثمن العرج.