كانت الألوان الصيفية الزاهية تتداخل مع بعضها البعض وتنبئ بلوحة لمشهد للغروب لا أروع منها، امتد الخط البرتقالي علي استقامته وتقاطع معه خط أصفر صارخ كأنه يستغيث رافضاً الرحيل فيناور السحب الرمادية بأن يختفي حيناً ويطفو حيناً، وفي الخلفية تناثرت نقاط صغيرة جدا كرؤوس الدبابيس فيها اللون الأخضر والأحمر والبني. هذه النقاط يمكن أن تفسرها علي هواك، فهي قد تصلح لتكون طواقي ملونة يبدو أصحابها من الارتفاعات الشاهقة وكأنهم يتحركون علي الأرض مثل اللعب، وهي تصلح أيضاً أن تكون بشاير البلح الزغلول الفتية تتدلي من فروع النخلة العجوز وتضرب جذعها المتماوج في دلال، وفجأة توقفت روان عن الرسم. فقدَت حماسها لإكمال اللوحة وما عادت ترغب في الوصول بشمسها إلي جوف بحر أو بطن جبل، ما عادت ترغب في ذلك مع أنها قبل الوصول إلي هذه النقطة حاولت ترويض تكاسلها وفشلت، فكل الشياطين تُرَوَض إلا شيطان الإبداع. إلي متى أيتها الفتاة تظلين غير قادرة علي إكمال عمل واحد وتذيلين لوحتك بأول حرفين من اسمك: ر.ش، روان شفيق؟. لا تدري، اجتاحها شعور تعرفه، شعور بأنها تقف في نقطة وسط علي حبل مشدود، تتجاذبها قوتان لا تستطيع أي منهما أن تغلب الأخرى وتحسم المعركة لصالحها. إحدى هاتين القوتين هي النفاذية الجذابة لرائحة الألوان، لكن القوة الأخرى ماذا تكون؟ هي قوة سلبية توسوس لها بأن محرابها ليس هنا وأنها لم تُخلَق لترسم. في واقع الأمر هي لا تعرف ما الذي خُلِقت له بالضبط، إنها إنسانة ليست لها بشكل عام خيارات محددة ولا انجذابات ولا تفضيلات، تتعامل مع كل الأشياء ولا تميل ميلاً واضحاً لأي شيء .
***
حكاية روان مع اللوحات غير المكتملة ليست كل علاقتها مع النقصان، ففي كثير من المرات استفزها حبها للطبيعة وأغراها بأن تتعامل مع هذه الطبيعة من منظور آخر غير منظور الفن، تجدها وهي تحوّل الرياح والأمواج إلي معادلات رياضية وتتوحد مع اكتشافاتها وتتقدم، لكن عند نقطة معينة تجد نفسها علي الحبل المشدود إياه، تتسمر في المنتصف وفي أذنها صوت كأنه الفحيح يقول لها إن مكانها بعيد عن عالم الفيزياء والأرقام فأين مكانها؟ أين مكانها؟. غريبة هذه العوالم التي ترتادها روان واحداً واحداً وتسير فيه خطوات ثم فجأة ترتفع من داخلها لافتة: طريقك مسدود. يمكنك أن تحكم علي هذه الفتاة بأنها إنسانة لا تثق في نفسها لأنها لا تكمل عملاً بدأته إلا بالكاد ولا تقطف ثمار نجاحها إلا نادراً، ويمكنك أيضاً أن تصفها بالغرور لأنها ترفض أن يستأثر بها عمل واحد ويحتكرها تخصص أو هواية حتي لو كانت تحبه/ تحبها، لكنك بالتأكيد لن تخطئ إن حكمتَ عليها بأنها إنسانة تعيسة . حتي صداقاتها لم تنج هي الأخرى من هذه اللخبطة الشعورية، علاقاتها ممدودة مع الجميع وفاترة مع الجميع، ليست لها صديقة "أنتيم" كما يقولون تفضفض لها وتتآمر معها وتَغِير منها وتَغِير عليها، لا تتطور علاقاتها مع الآخرين إلي الحد الذي تأتمن فيه أحداً علي سر لها أو تؤتمن فيه من أحد علي سر له.
***
زماااان راهن عليها أبواها لتحقيق كل أمنياتهما المجهضة وربما حتى كل الأمنيات المجهضة للأهل والجيران والأصحاب، فهي العالمة والمهندسة والطبيبة والرسامة والعازفة والبطلة، أوردتها أسرتها جميع الآبار -إن جاز التعبير- وفيها ما فيها من علم وثقافة وفن ورياضة فشربت منها جميعاً دون أن ترتوي من أيها، كل بئر اغترفت منه فارقته قبل أن يرطبها ماؤه. حاول أبواها أن يصنعا منها الفتاة المعجزة التي تعرف أكثر من جميع أقرانها وتتفوق عليهم كافة، لكنها لم تأخذ وقتها لتنشئ علاقة قوية مع أي شيء تعلمته وتميل إليه بالتدريج. يحتاج الميل أن ينضج علي نار هادئة فيبدأ بالفضول ويمر بالاهتمام ويتطور في الأخير إلي الحب، وهذه مراحل لم تمر روان بأي منها، ولعل هذا ما يسمونه حرق المراحل. في البداية انتابها الإشفاق على والديها لأنها خذلتهما ولم تكن هى الحصان الرابح الذي راهنا عليه، ثم صارت تحنق عليهما بعد فترة فمن أوحي لهما في الأصل بأن يختارا لها دور الحصان؟ .
***
حملت روان لوحتها الناقصة كالمعتاد تحت إبطها ومضت متثاقلة إلى المخزن في الطابق الأرضي حيث توجد كل أعمالها الناقصة وكل مشروعاتها غير المكتملة جنباً إلي جنب مع كراكيب أخرى كثيرة. تكومت وراحت تراقب العنكبوت وهو ينسج بهمة شبكته فوق السقف، لبثت تتابعه حتي أوشك أن ينتهي من عمله وكأنها تريد أن تعرف كيف تبلغ الأشياء تمامها بحب وشغف. تناهي إليها اسمها من داخل المنزل ممطوطاً: يا روووووووان فأخذت علماً باستدعائها للغداء ولم تحرك ساكنًا.