كان الجيش المصرى هو النواة التى قامت حولها الدولة المصرية الحديثة، وبسببه، أنشأ محمد على المصانع وأرسل البعثات وأقام مدارس عليا لتخريج مهندسين وأطباء وحرفيين، وسمح بتعليم البنات فى مدارس التمريض لمداواة الجرحى من الجنود.
وبعد أن تأسست الدولة، وتشكلت أبنيتها على النمط الأوروبى أو قريبا منه، وصار لدينا نظارات ودواوين ودستور ومجالس نيابية، اختص الجيش بحماية الحدود، ودرء الأخطار الخارجية عن البلاد، لكنه بقى ملاذا أخيرا حين يعم البلاء ويتفشى الظلم والفساد ، وتقترب البلاد من حافة الفوضى، جرى ذلك فى 1882، كما جرى فى 1952، وحين لم تأت «الهبّة» من داخل الجيش كما هو الحال فى ثورة عرابى وثورة يوليو، فإنه تم استدعاؤه، لأن أحدا لم يكن لديه تصور عن مؤسسة أو حزب أو جماعة أو حتى فرد، يمكنه أن يقود السفينة إلى بر الأمان، فى ظروف انكشفت فيها حقبة مبارك بلا ورقة توت واحدة: مؤسسات مترهلة نخر الفساد عظامها، وهياكل اقتصادية وسياسية وأمنية متداعية أو هى على وشك السقوط. بهذا المعنى، صار الجيش أمينا على الثورة وشريكا فيها. وإذا كنّا نحن المواطنين قد فوجئنا بحجم الفساد والإفساد والخيبة التى عشنا فيها على مدى ثلاثين عاما، فإن المفاجأة لدى المجلس العسكرى كانت أشد، بحكم أنه بطبيعة دوره ضمن التقسيم السيادى والإدارى للدولة، كان بعيدا عما يطبخ فى كواليس لجنة السياسات، وما يحاك من مؤامرات بين أجنحة الحزب الوطنى المتصارعة، وحين حاول أن يستكشف الأوضاع عن قرب، ويستمع إلى الشيوخ والشباب والنخب السياسية والفكرية، فإن الأمور لم تنجل، بل زادت غموضا وضبابية، فما أصاب المواطنين من وعثاء حكم مبارك طيلة ثلاثة عقود، نال من النخبة وأصابها فى مقتل، فلم يعد بمقدورها الاتفاق على شىء، وزادت بينها مساحات الفرقة والشك والخلاف، وغلب منطق التجريس والمكايدة على خطابها السياسى فأفقده اتزانه، وخصم من رصيدها لدى الناس.
لهذا كله، لم تعجبنى شعارات رفعها جماعة «متظاهرون للأبد» فى الجمعة الماضية، وقد علت صيحاتهم يطالبون الجيش بالعودة للثكنات، ظنّا منهم أن المجلس العسكرى يتحايل للانقضاض على الحكم، برغم تأكيدات قادته مرة بعد أخرى أنهم سيسلمون الحكم للمدنيين فى أقرب وقت.
يجرى هذا فى وقت تنشر فيه الأهرام نتائج استطلاع أجراه مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، أكد فيه 90% من المصريين ثقتهم فى المجلس العسكرى، والمركز بالمناسبه يديره الآن ضياء رشوان وليس عبد المنعم سعيد.
أتصور أن رجال المجلس العسكرى يتطلعون ليوم يعودون فيه فعلا إلى ثكناتهم، أثق أنهم يتحينون لحظة يقولون لنا فيها: شكرا أنتم أدرى بشئون دنياكم.
المهم أن نثبت أننا فعلا أدرى بشئون دنيانا.