جلست أمام التلفزيون بعد إصابتى بوعكة خفيفة أبقتنى فى بيتى. شعرت بعدها بحالة من الإحباط والغضب والنفور. لم يكن مبعث هذه المشاعر البرامج ولكن كان مبعثها الإعلانات.. شهد جيلى التلفزيون فى مرحلة الصبا والشباب المبكر وتزامن بداية البث التلفزيونى فى مصر عام 1961 مع بداية فترة الاشتراكية والقطاع العام، وما لبث أن نشبت الحرب فى عام 1967 فكان الجو يسوده التقشف. فلم نعرف الإعلان من خلال التلفزيون الذى كان محصورا فى الصحف والمجلات واللافتات على الطرق.
كانت أول خدمتى الدبلوماسية فى الخارج فى سفارتنا فى سان سلفادور، بدأت فى عام 1975، وهى بلد صغير فى أمريكا الوسطى من الدول المعروفة بجمهوريات الموز، وأبهرتنى الإعلانات التى تظهر فى تلفزيونها.. إعلانات فى كل شىء من ملابس وأدوات تجميل وأطعمة.. إعلانات بإخراج جذاب كنت أستمتع بمشاهدتها وأتساءل لماذا لا توجد إعلانات مثلها فى تلفزيون مصر؟، ويا ليتنى ما تساءلت وما تمنيت.
توحش الإعلان فى التلفزيون إلى درجة صارت مزعجة ومستفزة فإضافة إلى الوقت الذى تستهلكه من أى برنامج حتى بات المتفرج يفقد التركيز، فإن المتابع للإعلانات يخرج بانطباع أنه يشاهد تلفزيون سويسرا أو مونت كارلو أو دولة مترفة من الثراء وليس دولة مثقلة بالديون وتجاهد لتوفير العملة الصعبة من أجل توفير مستلزمات الإنتاج وضروريات الحياة من قمح للخبز ودواء للمرضى. إعلانات تروج لسلع تمثل ترف الترف من حلوى وشوكولاتة وبسكويت ووجبات سريعة ومستحضرات تجميل وتحرض على الإنفاق السفيه، ولعل من أكثر الإعلانات استفزازا إعلان يبشرنا بأن الوحدة أصبحت بجنيه فاشترى ما تقولش ليه!. ولعل الأكثر إثارة للحنق هو أسلوب مخاطبة الإعلانات للجمهور وكأن الشعب المصرى من المهرجين العابثين الذين لا يمكن الوصول إليهم إلا من خلال التهريج السفيه الهطل بعيدا عن الذوق الرفيع الراقى.
لعل ما يجعل الاستفزاز يتجاوز القدرة على الاحتمال وسط هذا الترويج الاستهلاكى القيم طلوع مجموعة من الإعلاميين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء ودعاة للمسئولية والوطنية، يدعونا لشد الأحزمة على البطون وأن نأكل أرجل الدجاج اللذيذة المغذية التى أوصلت الصين إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار لأن أهلها يأكلونها! ثم تخرج علينا مجموعة أخرى تدعونا إلى مقاطعة الدجاج لتأديب الفرارجية الجشعين مصاصى دماء الشعب دون إدراك أنهم من أبناء هذا الشعب وليسوا من الهكسوس الغزاة، وأنهم يعانون من ارتفاع أسعار الأعلاف وأمصال التحصين والكهرباء.
أصابتنى هذه الدعوات بموجة من الندم وتبكيت الضمير لأنى طاوعت نفسى الأمارة بالسوء والتهمت ورك فرخة كاملا بالدبوس دون مراعاة لمعاناة الشعب الكادح. ويزيد من الاستفزاز أيضا ما يتسرب عن المبالغ الفلكية التى يتقاضاها الممثلون والممثلات الذين يقدمون الإعلانات، والتى تصل فى بعض الأحيان إلى الملايين بل عشرات الملايين من الجنيهات، فى وقت تعرض فيه وزارة التربية والتعليم فرص عمل للمدرسين والمدرسات بالحصة دون تعيين مقابل دريهمات زهيدة.
• • •
لعله من الإنصاف أن نعترف أن الإعلان لم يتغول فى مصر وحدها بل إن تغوله ظاهرة عالمية ومن أجل أن ندرك قوة الإعلان فلنراجع القائمين عليه. وأكبر شركة للدعاية والإعلان هى شركة WPP البريطانية التى أنشأها سنة 1985 Martin Sorrell، وأصبحت اليوم عملاقا يحقق دخلا سنويا يقدر بنحو 18 بليون دولار ولها 300 مكتب فى 112 دولة وتوظف 110 آلاف موظف. وكان لابد لعراب العالم الرأسمالى الجديد ــ الولايات المتحدة ــ أن يلهث ليلحق فى سباق سوق الإعلان، فتأتى شركة Omnicom Group الأمريكية ومقرها نيويورك فى المركز الثانى بين شركات الإعلان بمدخلات تبلغ 14.5 بليون دولار سنويا ولها مكاتب فى 100 دولة وتوظف 77 ألف موظف. لم تغب فرنسا الدولة الصناعية الإمبريالية الكبرى عن السباق التى شاركت فيه بشركتها Publicis Groupe France، التى تحقق دخلا سنويا يبلغ 13.5 بليون دولار ولها مكاتب فى 105 دول ويبلغ عدد موظفيها 100 ألف. أما اليابان العملاق الصاعد من رماد الجحيم النووى وأصبحت منافسا للدول العظمى فلديها شركة Dents، وهى من أقدم شركات الدعاية والإعلان تأسست عام 1901 وتبلغ مدخلاتها السنوية قرابة 10 بلايين دولار ويعمل بها 50 ألف موظف ولها تمثيل ومكاتب لـ 145 دولة.
لعل هذا العرض يوضح قوة وثقل الإعلان وشركاته التى توظف أعدادا تضاهى جيوش دول ولها تمثيل فى دول بعدد سفارات الدول الكبرى وتسيطر على أموال تجعلها تضاهى الدول المترفة، ولم يعد دور الإعلان مقتصرا على الترويج لسلعة أو ماركة بل صار هدفه خلق مناخ استهلاكى وإنسان لا يشبع متطلعا دائما إلى المزيد، ينتظر الموديل واللون والشكل الجديد دون أن يكون فى حاجة له وكان متخما بما عنده. أصبح عدو الإعلام ليس الماركة المنافسة أو السلعة المنافسة، لكن عدوه اللدود هو الإنسان القنوع الراضى بما عنده الذى لا يرغب فى تغيير بذلته التى اشتراها فى العام الماضى وما زالت جديدة لأن موضة هذا العام الجاكيت بصفين.
أثر ذلك الهوس على المجتمع وعلى الأسرة، ولا نستغرب أن تذهب سيدة إلى محكمة الأسرة تطلب الخلع من زوجها لتضررها لأنه لم يشترِ لها آخر موضات بيوت الأزياء الفرنسية، ولا من شاب ذهب لطبيب نفسانى لعلاجه من حالة اكتئاب حاد ليكتشف أنها ناتجة عن رواسب تكونت فى طفولته بسبب رفض أبيه شراء شنطة السابلايز واللانش بوكس عليها صورة بات مان.
• • •
هناك تحالف غير مقدس بين شركات الإعلان وشركات العلاقات العامة، وتسيطر عليها أيضا شركات عملاقة تدور مدخلاتها نحو البليون سنويا أكبرها شركة Edelman الأمريكية وتضم قائمة العشرة الكبار Vector Inc. من اليابان وBrunswick البريطانية وMSL الفرنسية. وتختلف شركات العلاقات العامة عن شركات الإعلان بأنها لا تروج لسلعة أو علامة تجارية لكنها ترعى مصالح مؤسسات وشركات وتبرر تصرفاتها وتتعامل مع أخطائها.
فعندما ظهر بشكل حاسم علاقة التدخين بالسرطان شنت شركات العلاقات العامة حملات مكثفة لإظهار تبرعات شركات السجائر من أجل أبحاث علاج السرطان، وعندما جنحت الناقلة العملاقة Exon Valdez فى عام 1989 أمام سواحل ألاسكا وتسرب منها 11 مليون جالون من البترول الخام مسببة كارثة بيئية، تصدت شركات العلاقات العامة لتقنع الجمهور أن شركات البترول وشركات الناقلات تقدم الملايين من أجل أبحاث الحفاظ على البيئة وتكرر ذلك بعد حادث منصة البترول Deep Horizon فى خليج المكسيك وحادث المنصة Piper Alfa فى بحر الشمال. ولا يخفى الدور الذى تقوم به شركات العلاقات العامة لخدمة اتحاد البنادق الوطنى NRA فى الولايات المحتل للوبى الحق فى حمل السلاح رغم فواجع إطلاق النار العشوائى الذى سقط بسببه المئات. لقد زادت سطوة الإعلام والعلاقات العامة بسبب الاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الاجتماعى وشبكات المعلومات، التى جعلت معلوماتنا الشخصية فى متناولهم يقتحمون من خلالها خصوصيتنا وتزداد معها قدرتهم على التأثير علينا.
لقد اختزل الإعلان الإنسان إلى مستهلك ويسعى إلى تحويلنا جميعا إلى مدمنى استهلاك، وما أدراك ما هو مدمن الاستهلاك: إنه الإنسان الطماع الجشع الذى لا يشبع، الذى لا يشعر بقيمته إلا بقدر ما يستهلك.
• • •
احترس أيها الإنسان ولا تجعل الإعلان يفقدك آدميتك وإنسانيتك ويحولك إلى مستهلك جشع لا يبالى بنتيجة جشعه، الذى سبب انقراض العديد من الأجناس بسبب نهم المرأة لفرائها وتتعرض الأفيال للندرة بسبب النهم لعاجها وأسماك التونة الزرقاء بسبب النهم للحومها ويتعرض المناخ للخطر بسبب لهاث المصانع على حرق الوقود لملاحقة طمع الأشخاص المستهلكين، انتبهوا فالإعلان ليس مجرد مونولوج فج يؤديه مؤدٍ بسوقية لكنه أخطر من ذلك بكثير.