إذا كانت الثقافة، كما يعرفها المرحوم الدكتور عبدالله عبدالدائم، هى تلك الوقدة الانفعالية التى تثير الدهشة والتساؤل والفضول فى الإنسان، وبالتالى تحتاجها المجتمعات من أجل أن تتصف بالحيوية والإبداع، ومن أجل أن تمارس المحاولة الدائمة للارتقاء بالسمو الإنسانى فى قيمه وأخلاقه وعلاقاته مع الآخرين والطبيعة.. إذا كانت كذلك فإن مهمة انتقالها من جيل إلى جيل ومهمة تجديدها تصبح من مسئوليات الجميع: البيت والمدرسة والجامعة ومنابر الإعلام والفكر والمسجد والكنيسة والنادى والمسرح والسينما ووسائل الاتصال الاجتماعى، بل وحتى الشارع، وغيرها الكثير.
لكن المسئولية الأكبر تقع بامتياز على عاتق المؤسسات التعليمية. إنها ليست فقط قادرة على تمرير الثقافة من جيل إلى جيل، وإنما هى الأكثر تأهيلا لممارسة تحليلها ونقدها بعقلانية وموضوعية، ومن ثم المساهمة فى تجديدها المستمر المطلوب من جهة وفى انعكاس ذلك التجديد على المدرسة نفسها، بيئة ووسائل ومناهج وعاملين، من جهة أخرى.
دعنا نأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما نعنى فى الواقع المدرسى وبالطبع الجامعى أيضا.
أولا، هل يستطيع القيام بالمهمة الثقافية تلك معلم لا يتمتع هو نفسه بثقافة واسعة عميقة، وذلك من خلال إعطائه جرعة كبيرة من الدراسات الإنسانية، الاجتماعية والنفسية والأدبية والفنية، وأساسيات العلوم الطبيعية والبيولوجية؟
إذن، فإعداد ذلك المعلم سيحتاج إلى ما لا يقل عن ست سنوات من تعليم وتدريب عملى. وهذا بصراحة سيتطلب ما نادينا به عبر ثلاثين سنة من ضرورة تمهين مهنة التعليم لتصبح مهنة رفيعة المستوى، فى القيمة الوظيفية والراتب والمكانة الاجتماعية، مماثلة لمهن الهندسة والطب والقانون على سبيل المثال.
المعلم المثقف ذاك سيمارس مع تلاميذه الأسس التى تتطلبها العملية التثقيفية: التساؤل والفضول والدهشة والإبداع والتجديد والاستقلالية الذاتية المتوازنة والمواجهة الشجاعة للأسئلة الوجودية الكبرى.
بدون ذلك المعلم ستظل المدرسة، وكذلك الجامعة، تجتر نفس الثقافة، بكل تشوهاتها وعللها، وتمررها من جيل إلى جيل دون تجديد وإغناء وتجاوز نحو الأفضل والأسمى والأعدل ودون إعداد للطالب ليمارس كل ذلك الرفض والتمرد بعد تركه للمدرسة والجامعة.
***
ثانيا، فى طول وعرض وطن أمة العرب يجرى الحديث عن ضرورة وأولوية انتقال مجتمعات العرب من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة الديموقراطية الشاملة العادلة. وبالطبع فإن ذلك الانتقال لا يتطلب فقط وجود أحزاب سياسية وانتخابات دورية وتبادل للسلطة ووجود لمؤسسات تشريعية مستقلة عن التنفيذية. ذلك لن يكفى، بل وسيشوه وسينخره الفساد ويزور، إلا إذا رافقه بناء ثقافة سياسية ديموقراطية فى عقل ووجدان وروح المواطنين، وعلى الأخص الأطفال والشباب والشابات منهم.
إن بناء تلك الثقافة لن يكفيها التعليم النظرى وتلقين التلاميذ مبادئ الديموقراطية وتطبيقاتها، لأنها لن ترسخ فى الأطفال والشباب إلا من خلال ممارستها فى الصف وفى المدرسة والجامعة.
وإذن ستكون هناك حاجة لوجود مدارس وجامعات تمارس الديموقراطية فى إدارتها وفى العلاقات بين أفرادها وفى اتخاذ القرارات الأساسية بشأن مسئولياتها ونشاطاتها ومستقبلها. وهذا سيتطلب إشراكا فعليا للمعلم والطلبة، جنبا إلى جنب مع المسئولين الإداريين، فى إدارة المؤسسة التعليمية.
فى هذه الأجواء تحترم كرامة الطالب الإنسانية، يتعلم الأخذ والعطاء والحوار المتسامح والتعايش مع الآخرين، يمارس استقلالية الشخصية ورفض الخضوع والتبعية ويطرح الأسئلة ويحصل على الجواب ويناقشه.
بناء الشخصية والقدرات الفكرية والنفسية والاجتماعية يحتاج إلى بيئة مدرسية وجامعية تسمح بتجسيد الأفكار فى الواقع اليومى لحياة التلميذ المدرسية والجامعية.
***
ثالثا، مهمة التثقيف لا يمكن أن تمارس وأن تنجح إذا كانت أحد أهم وسائل ممارسة ثقافة الأمة تلك، اللغة الأم، أى اللغة العربية، مهمشة أو ضعيفة أو مهملة، سواء فى المناهج أو فى الممارسة الحياتية المدرسية والجامعية اليومية.
ولذلك فإن التوجه المجنون الحالى، فى كل الوطن العربى، نحو خصخصة التعليم، يطرح موضوع تعليم اللغة العربية فى المدارس والجامعات الخاصة بقوة وجدية. إذا سمح لتعلم واستعمال اللغات الأجنبية فى المدارس الخاصة والجامعات الخاصة أن يكون على حساب تعلم وممارسة اللغة العربية الأم، فإننا نهيئ لتراجع ثقافة الأمة وتهميشها، ومن ثم تراجع وتهميش وتشويه هوية الأمة، عروبتها، ومن ثم تخريج جيل بلا أحاسيس وطنية ولا انتماءات قومية.
إننا عند ذاك نحقق هدف الرأسمالية العولمية وأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة فى بناء إنسان عولمى لا يرتبط بأرض ولا بشعب ولا بأمة، وبالتالى لا يرتبط بتاريخ أو ثقافة، سوى الثقافة العولمية ذات البعد الاستهلاكى الاقتصادى النهم والتسطيح الفكرى والعاطفى والروحى.
جدلية الثقافة والتعليم يجب أن تأخذ حيزا كبيرا ومميزا فى جداول أعمال وزارات التربية والتعليم العالى لأن قضية نوع وأهداف وممارسات الثقافة ستكون إحدى أهم مواضيع هذا القرن وهو يواجه مشاكل بالغة التعقيد والتشابك والأخطار.