يُمثل التحول الدرامى السريع فى سوريا، الذى استغرق عشرة أيام، حالة جديدة من التغيير تحت هيمنة السلاح، ولكن دون التوسع فى إراقة الدماء بعد تخلى روسيا وإيران عن الرئيس بشار الأسد، وامتناع الجيش السورى عن مواجهة الفصائل المسلحة التى استولت على مدينة تلو الأخرى بيسر وسهولة دون مقاومة تذكر.
اعتدنا قبل ذلك على مشاهد البهجة والفرح برحيل نظام حاكم فى دولة عربية، واستمعنا إلى أحاديث الناس المفعمة بالانفعال والمشاعر المختلطة، وسط أحلام عريضة بالديمقراطية والتقدم والتنمية والرخاء، وقد عبر السوريون من تيارات مختلفة عن مشاعر الفرح والبهجة، وهو ما لفت انتباه كثيرين، وسؤال حالهم: ألا يدرك هؤلاء ماذا ينتظرهم؟
فى منتصف خمسينيات القرن العشرين وما تلاها كانت حركات التحرر الوطنى تعبر عن نضال داخلى، وتلقى أحيانا دعما خارجيا، واختلط المشهد ما بين الداخل والخارج فى تجربة ما عُرف بالربيع العربى، الآن تبدو الصورة واضحة: صناعة خارجية بامتياز مستغلة بؤس الأوضاع الداخلية سياسيا واقتصاديا وإنسانيا. كم دولة فى العالم العربى أصبح ترتيب الأوضاع بها رهنًا بتوافقات خارجية؟ حدث ولا حرج، بما يتجاوز نظرية التبعية التى كنا ندرسها فى العلوم السياسية منذ زمن.
فى المشهد السورى هناك أسئلة أساسية يتعين ألا تبرح الأذهان: ما مستقبل الفصائل المسلحة التى تحمل السلاح، ولاسيما أن بعضها يحمل أيديولوجية متطرفة؟ هل يتخلون عن السلاح، ويلعبون سياسة؟ أم يبقون على السلاح بدعوى مقاومة إسرائيل التى أسرعت باقتطاع جزء من الأراضى السورية؟ وما مصير الجيش السوري؟ هل ستكون هناك مليشيات بجوار الجيش، على غرار الجيش والدعم السريع فى السودان، وما آلت إليه الأمور هناك من خراب ودمار؟
هل يمكن أن ينشأ نظام سياسى جديد وسط هذا الكم الهائل من التدخل الخارجى متعارض المصالح والاتجاهات؟ وما أدرنا أن يظل سلاح الفصائل «موحدًا»، أليس من الوارد، لا قدر الله، أن يُستخدم فى نزاعات داخلية نتمنى ألا تنزلق إليها سوريا؟ ماذا ننتظر من بقايا نظام بشار الأسد، هل سوف تطاردهم رغبات الثأر، ولاسيما أن هناك من خرجوا من السجون محملين بمرارة التنكيل بهم ويريدون تصفية الحسابات؟
وقضية أخرى لا أظنها هينة، وهى أن القوى الكبرى والإقليمية التى دعمت تحرك الفصائل المسلحة لإسقاط نظام بشار الأسد، لابد أن لديها مخططًا يخص سوريا، وقد يمتد لدول أخرى فى المنطقة، والسؤال هو: ما هذا المخطط؟ وما هى مراحله المقبلة؟ وما علاقته بالتصورات الإسرائيلية للمنطقة عقب حربى غزة ولبنان؟ إجابات يحار بشأنها المحللون.
للأسف نحن أمام تغيير فى سوريا، أبهج كثيرًا من السوريين، لكنه يحمل نذر قلق وتوتر فى الأفق، لأن هذا التغيير ليس مستقلا بذاته، وليس لديه تصور لبناء وإدارة دولة، وسبق أن جربنا صيغة «أسقط النظام، وبعدين نشوف»، واختبرنا كارثيتها، فإذا كان بقاء رئيس الوزراء السورى وحكومته فى إدارة شئون الدولة بعث برسالة طمأنينة فى الحرص على الحفاظ على مؤسسات الدولة، فإن الأهم هو وجود تصور للانتقال لوضع مستقر مستدام فى ظل نزاعات كثيرة محلية وإقليمية ودولية.
يبدو أن الجميع اتفق على خروج إيران ووكلائها من سوريا، لكنهم لم يتفقوا على ماذا يريدون بعد ذلك. وبالفعل، فإن إيران لم يكن أحد يريد بقائها، ويمثل انهيار نظام مدعوم إيرانيا وروسيا انتصارًا لإدارة بايدن التى توشك على الرحيل، ولكن لا أحد يمكن أن يتنبأ بما سوف تؤول إليه الأوضاع هناك، والتى قد تمتد لإعادة هندسة سياسية وجغرافية للشرق الأوسط برمته.