هناك هجمة من الفيديوهات القصيرة، أو «رييل»، مُعدة بتطبيقات الذكاء الاصطناعى، تحوى حوارات يجريها مذيعون ومذيعات مع الناس فى الريف والحضر، مع مناظر خلفية تعكس الحياة العادية، وتشمل عبارات مبتذلة، وأحاديث جنسية صريحة ومستبطنة، تتجاوز فى انفلاتها فيديوهات يقوم بها عدد من الشباب على تيك توك، ويطرحون أسئلة، ويخوضون فى نقاشات تنطوى على إيحاءات جنسية، ولغة سوقية هابطة.
يبدو أن هذه الموجة سوف تزداد وتتشعب مع التوسع فى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعى، ويصبح السؤال: كيف يمكن أن نحصن الشباب والنشء تجاه هذا النمط من الإنتاج الفنى؟
بداية، النظر إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعى بوصفها خطرًا، ليس هو المراد أو المقصود من هذا الحديث، لكن المسألة ترتبط بكيفية التعامل مع التوسع فى المنتجات الإعلامية المستندة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعى، والتى تشكل تحديا ثقافيا وأخلاقيا. بالتأكيد ليست كل المنتجات الفنية التى تعتمد على هذه التقنية سلبية، بل هناك منتجات فنية راقية وروحية وثقافية ملفتة، من بينها تقديم أشهر المقطوعات الموسيقية والأغانى العالمية فى تصوير حديث مبتكر.
ليس من السهل مواجهة الأخطار بالعقلية القديمة التى تقوم على الحجب أو المنع، لأن ذلك لم يعد متاحًا. كما ليس من الإيجابى الإفراط فى الهلع والتحذير من القادم، وكأنه طوفان سوف يبلعنا جميعا، لأن ذلك غير حقيقى، ونتذكر أن فى كل التحولات التى طرأت على العالم، نقف عاجزين لفترة زمنية، نحذر ونشكو وننتقد وندين، ثم نتحول بعدها إلى مستهلكين ومتلقين سلبيين، وليس منتجين فاعلين.
أظن أن من حق النشء والأطفال فى المدارس أن يتعلموا كيف يتعاملون مع الإعلام، خاصة فى تطوراته الحديثة، المتجددة والمثيرة، وهناك دول مثل أستراليا والفلبين والأردن تقدم الإعلام لطلاب المدارس، تحت لافتة التربية الإعلامية، وهى نفس اللافتة التى انطلق منها مشروع قانون فى مجلس النواب التونسى، يقوده ثمانون نائبا، بهدف التربية الإعلامية لطلاب وطالبات المدارس. بالطبع هناك أسباب عديدة وراء طرح هذا المشروع، من بينها استيعاب خريجى كليات الإعلام الذين يعانون من تحدى البطالة فى سوق العمل، وأيضا تحديث التعليم، ووضعه على طريق الارتباط بقضايا المجتمعات المتغيرة.
وقد يكون فى التربية على الإعلام دعما للشباب والنشء على تكوين العقل النقدى، الذى يساعدهم، والأجيال القادمة، على الإفراز، والتفرقة بين الغث والثمين، والإفادة من الإعلام فى انضاج الوعى، وليس فى اكتساب ثقافة وممارسات سيئة، فى صورة الثقافة الجنسية المشوهة، وإضفاء طابع غريزى على النظرة للحياة من حولنا، والحض على الاستهلاك الترفى، بما فى ذلك استهلاك الإنسان لذاته بحثا عن اللذة والإثارة، هذا إلى جانب الأخبار المفبركة، وترويج الشائعات، والصور النمطية، والحض على الكراهية، والنفور من المختلفين، دينيا وعرقيا وثقافيا.
أظن أنه من المفيد أن تتجه وزارات التعليم والشباب والتضامن إلى تضمين أنشطة تتعلق بالتربية الإعلامية فى البرامج المقدمة للجمهور العام، الذى بات يتعاطى الإعلام فى كل لحظة حتى إن لم يكن يشاهد التلفزيون أو البرامج الفضائية، يكفى أن يتجول فى هاتفه المحمول، ويجد نفسه محاطا بسيل من الأخبار والتعليقات والصور، وغيرها.
دون شك فإن معركة المجتمعات القادمة ستكون على العقل، وهو ما يجعلنا ننتبه إلى أهمية الأنشطة التى ترقى به، وتكسبه الفكر النقدى، وتساعده على التمييز بين الحقيقى والزائف. هذه هى إشكالية التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعى، بما يفيد فى تنوير المجتمعات، ويحول دون إغراقها بالنفايات الفكرية.