كنا بين أوائل السكان الذين وفدوا على حى المهندسين. أغلب الوافدين كانوا حديثى العهد بالزواج أما نحن فكنا من الأقلية، أى من عائلات اكتمل تكوينها أو كاد. أحاطت بنا الخضرة من كل مكان، ومن حسن حظنا أن بيتنا كان يطل على شارع هو الأوسع فى الحى. كثيرًا ما قضينا العصريات مجتمعين كعائلة صغيرة فى شرفة تطل على هذا الشارع نلعب ألعابًا صغيرة مثل المراهنة على عدد السيارات التى تمر قادمة من جهة الشرق وفى اتجاه حى بولاق الدكرور خلال دقيقتين مثلا. كانت الصغيرة تكسب لأنها تراهن على أصغر عدد، أى على ما لا يزيد على سيارة أو سيارتين خلال الدقيقتين. أما أجمل اللحظات وأكثرها رومانسية فكانت عند صباح الإجازات المدرسية وكان رهاننا ينصب على تخمين أقرب عدد ممكن للماعز فى القطيع الذى تقوده كل صباح بدوية تجلس فوق حمار مدلية على جانب منه ساقيها وفى يدها وعاء تجمع فيه حليبًا حصلت عليه من إناث القطيع كلما توقفت المسيرة. كانت شرفتنا تطل على مساحة خضراء واسعة تحلو فى أعين القطيع أو لغاية عند الفتاة التى تقوده فيقضون جميعًا وقتًا أطول.
• • •
بعد مضى شهور على انتقالنا للسكن فى هذا الحى وتحديدًا فى هذا المكان الممتع ظهر رجل بسيط المظهر يجر عربة تحمل قدرًا للفول المدمس وفى نيته الصعود بها إلى الحديقة، تصورنا وقتها أنه يضيف رومانسية إلى اللوحة التى اجتمعنا على رسمها فى خيالنا للمكان. لم نعرف وقتها أو نقدر أن هذه العربة، وهؤلاء المستهلكين المتجمعين من أجل تناول حفنة من الفول المبلل بقطرة زيت والمزود بقطرة أخرى من عصير الليمون ورغيفين وفوقهما جذع بصلة خضراء، لم نعرف ولم نقدر أن العربة والملتفين حولها يمكن أن يكونوا طلائع غزوة تقضى بعلم الجميع على كل أخضر ويابس فى المكان.
• • •
العربة البسيطة وقدرة الفول تحولتا بقدرة قادر إلى مطعم صغير محمول على عربة ملونة بألوان زاعقة. لعلها المرة الأولى التى شعرت فيها بأن اللون يمكن أن يكون مقززًا إذا جاور لونًا آخر بعينه. ولعلها كانت أيضًا اللحظة التى أشعر فيها بأننا خذلنا البدوية وقطيع الماعز. خذلناهم عندما سمحنا لرجل الفول أن يتوسع فوق أرض خضراء وخذلناهم عندما سكتنا عن شرطى يتناول إفطارًا يوميًا مقابل تجاهل ما آل إليه المكان من قذارة وبخاصة بعد أن احتل مقهى متجول مساحة أخرى قريبة من مساحة رجل الفول وفرش مقاعد سهلة التركيب والخلع تخدم زبائن الفول والشاى معًا.
• • •
أول الأمر اعتبرنا رجل الفول وقدرته إضافة إلى لوحة جميلة لضاحية هادئة فى مدينة هى بين الأكبر فى العالم. لم تكن فريدة ولا جديدة من نوعها فقد عشنا فى مدن لم تخل أحياؤها وضواحيها من نساء ورجال يبيعون أنواعًا شتى من المأكولات والمشروبات وقوفًا على رصيف شارع أو وسط أسواق. عشت قريبًا من دلهى الشقيقة الأقدم للعاصمة نيودلهى. كثيرًا ما وقفنا قرب الظهيرة فى سوق المدينة القديمة أمام رجل يقلى السامبوسك المحشوة بالخضرة فى زيت يغلى منذ الصباح الباكر. لا هيئة الرجل كانت تشجع على تناول ما أنتجته يداه ولا الزيت المغلى ولا رائحة السوق الناتجة عن اختلاط شتى الروائح الممكنة وغير الممكنة ولا منظر عيادة الخبير فى علاج الأسنان الراقد على الرصيف يعالج أو لعله يستعد لخلع ضرس مريض يصرخ من الألم، لا واحدة منها ولا جميعها معًا كانت تمنعنا من شراء المقليات والتهام الواحدة بعد الأخرى.
• • •
أذكر أننى وقفت مرات أمام عربة أنيقة تحتوى على ثلاجة وفرن كهربائى وعدد لا بأس به من أوعية الطعام والمخللات، وبداخلها رجل نظيف الملبس حليق الذقن مصفوف الشعر يتولى مهمة غير شاقة بالضرورة. قام بناء على ما طلبنا بإخراج أحد منتجات اللحوم المحفوظة الساخنة من داخل الفرن الكهربائى وحشوها داخل الرغيف. مددت يدى لأخذ الساندويتش وفيها الثمن المقرر سلفا، وضع الشاب الأنيق ما حملت يده فى يدى ورفض ما حملت يدى قائلًا باللهجة المصرية، بالهنا والشفا يا ابن بلدى. حدث هذا فى شارع بالعاصمة الأمريكية ليس ببعيد عن طريق بنسلفانيا حيث يوجد البيت الأبيض.
• • •
كان اليوم باردًا. خرجت هاربًا من الدفء المبالغ فى سخونته داخل غرف المكاتب وراغبًا فى تحريك عضلات كادت تتصلب من طول ساعات الجلوس. أخذت معى مشروبى الساخن المعتاد، أقصد الشاى الصينى، ومشيت إلى خارج المبنى قاصدًا غير جهة محددة. مررت بمبنى جارى العمل فى تشطيبه وبدا لى أننى وصلت فى موعد غير مناسب إذ وجدت نفسى أمام، أو وسط، جماعة عمال نساء ورجال كل منهم يحمل فى يده وعاءه والدخان يتصاعد من داخله. اقتربت من أحدهم وبالفعل رأيت ما فى داخل صحنه الفخارى، رأيت أرزًا أبيض مسلوقًا مختلطًا بأوراق كرنب أيضًا مسلوقة، وعلى مقربة منه كوب الشاى فارغا فى انتظار زميل له يمر عليه وعلى بقية العمال بالماء المغلى. أكثرية العمال وفى انتظار الماء المغلى يتناولون غذاءهم واقفين أو متحركين خشية تجمد أطرافهم. تمشى بينهم لا يكلفون النفس عناء الاستدارة فضولًا أو للتحية. كلهم رجالًا ونساء فى زى موحد، زى ماو تسى تونج. استدرت ومشيت متعثرًا فى الجليد متوجهًا إلى مكتبى الخانق حرارة ومللًا وامتلاء.
• • •
أذكر موقفًا مماثلًا. كنت فى بيونس آيرس أسلك فى مشوارى اليومى من الفندق إلى مقر عملى طرقًا مختلفة رغبة فى التعرف على مدينة افترشت لنفسها مساحة هائلة من الأراضى. ذات يوم وجدت نفسى أمشى وسط عمال بناء يستعدون لتناول إفطار متأخر أو لعله كان غذاء مبكرًا. تذكرت آسفًا تجربتى فى بكين. هناك كانوا يأكلون الأرز المسلوق مع وريقات كرنب، هنا فى بيونس آيرس يأكلون اللحم فى الشارع وعلى الأرصفة مقددًا ومشتقاته مشوية خلال فترة الراحة. عدت بعد سنوات وسألت لأعرف أن هذه العادة اختفت، فاللحم صار سلعة لا يقوى على دفع ثمنها إلا الأغنياء.
• • •
زارنى فى روما أصدقاء وفدوا من القاهرة ضمن وفد رسمى لمؤتمر تنظمه منظمة الأغذية والزراعة. طلبوا اصطحابهم مع بقية أعضاء الوفد لمشاهدة نافورة تريفى الشهيرة، حيث يرمى السياح فى حوضها عملات معدنية تحمل أسماء جنسياتهم أملًا فى العودة لزيارة روما، كما تقضى الأسطورة. رمى بعض الأعضاء بقروش بسيطة متعللين بأن إجراءات التقشف فى بلادنا أقوى من أسطورة تريفى ففى كل الأحوال لن نعود. بمناسبة هذا الإحباط طلب أحد أعضاء الرحلة أن تقتصر دعوتى لهم للغذاء على تناول بيتزا (البيتسا) على الواقف خارجة لتوها من فرن فى مخبز تصادف وقوفنا أمامه. أذكر جيدًا منظرنا كوفد رسمى يرأسه وزير وبعض أعضائه من كبار البرلمانيين وقد وقفوا جميعًا، وفى أيديهم قطع البيتزا الملتهبة تبلل أصابعهم بالجبنة المتساقطة والمختلطة بالصلصة الحمراء، وما إن اقترب كل منهم من التهام آخر قضمة إلا وكان يستأذن فى طلب قطعة أخرى. انتبه صاحب الفرن فأوعز إلى مساعدة له بإخراج صينية أخرى على الفور ثم ثالثة جرى التهامهما وقوفًا فى دقائق.
• • •
إن تغافلت أو نسيت فلن أنسى وقفتنا الصباحية مع صحن البليلة أو الحمص الساخن فى شارع مجلس النواب فى طريقنا إلى المدرسة.