منذ أيام قليلة أتحفنا أحد السادة الأجلاء أعضاء الهيئة القضائية الموقرة بقصيدتين بليغتين قد عز علينا الحاضر بمثل هذه الفصاحة فى اللغة العربية التى لم نر مثلها منذ فترة طويلة، فضلا عن أنها قد جعلتنا نفتخر بوجود هذا المستوى الثقافى ضمن قضائنا الشامخ، وملاحظتنا المهمة أننا كنا نود أن تكون الخلافات الشخصية سرا من أسرار الهيئة الموقرة حتى لا تؤثر سلبا على صورة القضاء المنيرة بتاريخها الطويل.
ولكن بوصفى أستاذا فى علم اللغويات وفى علم تحليل النص، أنتهز هذه الفرصة ــ نظرا للقيمة اللغوية والفنية للخطابين ــ لكى أخضعهما للتحليل اللغوى بعيدا عن الصفة الوظيفية التى تقدم بها صاحب الرسالتين، ذلك على الرغم من أن التكوين الثقافى والاجتماعى والمهنى.. هى عناصر أساسية فى تحليل النص، سنستند إليها مع حفظ كل الاحترام والتقدير للسيد القاضى وللهيئة الموقرة المنتمى إليها، ولهذا سنحول ــ كما يقتضى التحليل العلمى ــ صاحب الرسالتين من القاضى إلى الكاتب أو الراوى أو المؤلف.
***
رسمت الرسالتان قصة درامية رفيعة المستوى، رأينا فيهما الراوى بطلا لمشهدين متناقضين لعبهما باقتدار وإتقان لا نظير لهما، مثَل البطل فى المشهد الأول دور المدعى وفى الثانى دور المدافع، فكان فى الادعاء هجوميا وقويا مناديا بأقصى العقوبة، فنوع المدعى فى ادعاءاته وتذرع مرة بسلطة رئيسه «الظالم» فى قوله: «كان الوزير فى يومٍ صوتَ القضاة، (...)، فأضحى صوتُنا سوطا علينا (...)»، ولجأ فى الثانية إلى الجانب الإنسانى الذى لم يَرْعَه رئيسه فاتهمه: «كان (...) لا يحفظ عهد أبى، (...) فهانت عندَه عظامُه إذ بَلَتْ»، ثم وصف نفسه بالضحية: «وإنى لَأُعاجل عُنُقى بذبحٍ قبل أن ينالها بطعنة موتور»، ولا ينسى المدعى ــ كعادة الشرق ــ المؤثر الدينى «فإن قَدِرَ هو على ظُلْمى (...) فإنَّ لمثلى ربٌّ يردُّه، فإن أمهله فى دنياهُ هذه فإنه لن يهمله فى يومِ موقفٍ عظيم» ويختم بالآية القرآنية: «فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد».
وفى الدور الثانى ينقل الكاتب ممثل الإدعاء ــ ببراعة فائقة ــ إلى دور الدفاع، فيقدم ممثل الدفاع مستبسلا ومطالبا بالبراءة التامة، فيستخدم هذه المرة كل وسائل الاستجداء والاستعطاف، فيقلب الراوى اتهاماته المتعددة بالقسوة وبالظلم لرئيسه ويعدد فجأة الصفات الملائكية فيه: «فأجلى عتابك ما كان من ظلم، فبدت الاستقالة مثل سوأة وأريتها فألزم حسن خلقك نفسى تعود»، ويتابع: «غير أن السلطة لا تغنى والدا عن ولده فعظم صدرك بعظيم شكواى»، ويضيف: «والسلطة فى يد صاحبها لا تترك له قلبا لينا فبما رحمة منك رددت على استقالتى».
وفى مرحلة ثانية من الدفاع يوحد الراوى المدعى مع المشكو فى حقه ويضع الاثنين فى موقف المعتدى عليهما، فيلقى تهمه على الآخرين المنافقين والانتهازيين! فيقول: «شجرة خبيثة بذرها رجالك ليتخذوها زينة عند سيدهم، وقد سولت لهم أنفسهم أن ما يفعلونه نفعله، ونأتى إليك مثلما يأتون» ويزيد فى وقيعته: « إن الذين نالونى ممن حولك نالوك لو يعلمون»، ويلجأ فى النهاية ــ كما فى إدعائه ــ إلى القصص الدينى: «وما رددت (فى حديثه عن استقالته) سوى قميص يوسف ليعقوب أبيه».
***
ولما كانت اللغة ــ فى تعريفها ــ هى الإنسان ومن خلالها يمكننا أن نطلع على بواطن التفكير وعلى تكوين شخصية المتكلم، نستطيع أن نقول إن الراوى فى دوره الأول الادعائى الذى لعبه بمهارة كان «أسدا» فى هجومه وفى اتهاماته حتى يحقق أقصى العقوبة على خصمه: «إن القاضى الجزئى (...)، لا يملك سوى نفسه ويملك الوزيرُ نفوسَ رجال، غير أن مِثْلى إذا اسْتُكْرِهَ على الأمر ما وسعه البقاء عليه»، والممثل نفسه عندما لعب دوره الثانى الدفاعى كان هذه المرة «نعامة» حتى يفوز بالبراءة: «غير أن السلطة لا تغنى والدا عن ولده فعظم صدرك بعظيم شكواى»، هكذا المتهم بـ«السوط» على غيره وبـ«المنتقم غير ذى عفو» أصبح رحيما: «له قلبا لينا فبما رحمة منك رددت على استقالتى»!!
هكذا نرى ممثلا واحدا بارعا لدورين متناقضين«الادعاء» و«الدفاع»، كما نرى فيهما لغتين متباينتين، الأولى تكشف فى ظاهرها عن جمال وإبداع والثانية لا تستر القبح والضعف والابتذال.
وأختم بتوجيه شكرى وتقديرى لمبدع القصيدتين لأنه أتاح لى فرصة إلقاء درس فى «تحليل الخطاب» لطلابى الجامعيين ولقرائى الأفاضل، كما أؤكد أنه أيا كان صحة ما تقدم من تحليل فالقضية الأصلية فى الرسالتين لا يهمنا فيها سوى البنيان اللغوى والتحليل العلمى.