رحلتنا اليوم مع كتاب شهير، من كلاسيكيات الجغرافيا الإسلامية فى عصرها الذهبى، يعود عمره إلى نحو 1100 سنة مضت، عنوانه «مسالك الممالك» (ويعرف أيضا باسم المسالك والممالك).
مؤلف كتابنا هو أبو إسحاق إبراهيم الإصطخرى، وتاريخ وفاته فى 346 هـ / 957 م. ويعود اسمه إلى مدينة «إصطخر Istakhr» فى الغرب الأوسط من بلاد فارس.
![](https://www.shorouknews.com/uploadedimages/Sections/Culture/Books/original/مسالك الممالك.jpg)
وإذا ذكر الإصطخرى فنحن أمام الرجل الثانى فى تأسيس علم الجغرافيا الإسلامية بعد البلخى الذى سبقه بعقدين فقط من الزمن. وقد دون الإصطخرى كتابه هذا من مصدرين:
• الاطلاع على المؤلفات والعلوم النظرية السابقة على زمنه.
• أسفاره ورحلاته التى شملت بلاد ما وراء النهر وإيران وجزيرة العرب والشام ومصر.
ولقد ترك الإصطخرى كتابين من أهم كتب الفكر الجغرافى وهما: «صور الأقاليم» و«المسالك والممالك». ويرجِّح العلماء أننا إزاء كتاب واحد يحمل عنوانين، وأن الإصطخرى ألف «صور الأقاليم» بشكل مختصر، ثم أسهب وتوسع وفصَّل فيه وأسماه «المسالك والممالك».
وفكرة الكتاب بسيطة للغاية: عرض كل إقليم شهير من أقاليم العالم الإسلامى وإرفاق خريطة شارحة له. وحين تُجْمَع هذه الخرائط معا يسميها العلماء «أطلس الجغرافيا الإسلامية».
تقوم فكرة الأقاليم على تمييز وتحديد الأرض وما عليها من البشر وفق الوحدة السياسية ذات الأصول العرقية واللغوية والمشتركات الاجتماعية.
ويذهب عبد العال الشامى فى تحليل ذلك إلى أن كلا من البلخى والإصطخرى هما أول من خرجا عن التقليد واتباع المدرسة اليونانية فى التعامل مع المناخات السبعة للأرض والانتقال إلى رسم وتعيين وتمييز «الأقاليم» المميزة.
وكلمة «إقليم» نفهمها من لفظ «أقلم» أو «يقلم». ونحن نعرف تقليم الأشجار وتقليم الأظافر، بمعنى تمييز الشكل وتفرده عن المتشابهات، ويقال للأرض إنها إقليم لأنها مقلومة (أى مقطوعة ومميزة ومتفردة) عن الأرض التى تجاورها.
والإصطخرى فى مقدمة كتابه يقصد أقاليم العالم الإسلامى دون سواه، ويحدد المشهور منها فى أربعة ممالك: فارس، الروم، الصين، الهند. ويقول الإصطخرى إن الإسلام حين جاء أقام مملكته على شطر من هذه الممالك الأربع.
ويوضح المستشرق الروسى العلاَّمة كراتشكوفسكى الأمر بقوله إن الإصطخرى لم يأخذ عن اليونان تقسيم الأقاليم كأحزمة عريضة تضم عددا من درجات العرض (Klimata)، بل كمناطق جغرافية واسعة أو ولايات (Regions). إذ عالج الإصطخرى جغرافيته على النحو التالى:
• وصف عام للربع المعمور من الأرض وأبعاده.
• وصف جزيرة العرب وبحر فارس (مع المحيط الهندى).
• وصف المغرب مع الأندلس وصقلية.
• وصف ومصر والشام وبحر الروم والجزيرة والعراق وإيران الجنوبية والهند وزيران الوسطى والشمالية (مع أرمينيا وأذربيجان وبحر الخزر) إضافة إلى ما نسميه اليوم شمال العراق وما كان يعرف قبل ألف سنة بالجزيرة الفراتية بين دجلة والفرات، العراق إلى الجنوب من الجزيرة الفراتية.
• وصف بلاد ما وراء النهر.
يقول عبد العال الشامى فى تقديمه لكتاب الإصطخرى إن هذه الطريقة التى اتبعها الإصطخرى قبل أكثر من 1000 عام تشبه التقسيم الإقليمى الكبير الذى نتعامل معه اليوم فى الدراسات الإقليمية لمناطق كبرى مثل: غرب أوروبا، الاتحاد السوفيتى السابق أو روسيا ما بعد الشيوعية، الشرق الأوسط، أفريقية جنوب الصحراء، أمريكا اللاتينية.. وما شابه.
يضع الإصطخرى عينه فى كتابه مملكة الإسلام، أى أنه ينظر إلى هذه المملكة كعالمٍ فى حد ذاته يمكن تقسيمه إلى ولايات وممالك أصغر، بلغت 20 وحدة إقليمية تفصيلية.
الجديد هنا مع الإصطخرى هو الخرائط أو الأطلس المرافقة للنصوص الجغرافية، وهذا الاتجاه هو الذى سيمنح كلا من البلخى والإصطخرى مسمى «رواد مدرسة الكارتوغرافيا الإسلامية». وتضم الخرائط أهم ما جاء فى النصوص من معالم جغرافية مثل المدن والجبال والأنهار والبحار والمسافات.
ووفقا لما راجعه عبد العال الشامى، فقد رأى النقاد أن خرائط مدرسة الإصطخرى ومن جاء بعده لا تقدم سوى وظيفة توضيحية، أى أنه لا يعتد بها فى تحديد المواقع على وجه الدقة، بل مجرد بيان الهيئة العامة للأرض وبحارها وتوقيع البلاد بالنسبة لبعضها البعض وما تتضمنه من ظاهرات طبيعيّة وبشرية تفيد فى إرشاد الراغبين فى التعرف على جغرافية الإقليم، كما تنفع المسافرين على الطرق بمعرفة أطوال مراحلها وخصائصها. ومن الأقاليم المهمة فى خريطة الإصطخرى لمصر تبدو شبه جزيرة سيناء واضحة بأقسامها الثلاث: السهل الساحلى الرملى الشمالى (رمل الجفار)، ثم الهضبة الوسطى (تيه بنى إسرائيل)، ثم الكتلة الجبلية الجنوبية (طور سيناء).
وقد حدد الشامى منهج الإصطخرى فى دراسة الأقاليم الإسلامية فيما يلى:
• الخريطة، أو الصورة كما يسميها. (ب) العلاقات المكانية للإقليم أى حدود الإقليم الخارجية أو العلاقة بينه وبين الأقاليم المجارة (ج) الأقسام الفرعية ذات الأهمية التى ينقسم إليها الإقليم. (د) المظاهر الطبيعية المختلفة. (هـ) الأحوال الاقتصادية للإقليم وما ينتجه من غلات. (و) المدن الكبرى وأهميتها. (ز) الطرق وأطوالها، وربما أضاف فى بعض الأوقات النقود والمكاييل والموازين المستعملة فى إقليم ما، أو القبائل التى تعيش فى الإقليم ومنازلها.
وعلى النحو الذى نتبعه به حاليا من تقسيم فرعى للأقاليم، قام الإصطخرى بتقسيم الإقليم الإسلامى الواحد إلى أقاليم ثانوية، فمثلا قسَّم ديار المغرب إلى نصفين شرقى ويشمل كل الشمال الإفريقى، وغربى وهو الأندلس.
وإذا كان كل ما مضى هو توضيح للشطر الثانى من العنوان «الممالك» فإن الإصطخرى أخذ يعدد الطرق التى تربط الأقاليم ببعضها البعض وأولى ذلك عناية لا تقل عن عنايته بذكر وتفصيل المدن ذاتها، كما ذكر ما أقيم على الطرق فى محطاتها من خدمات للمسافرين كالخانات والرباطات والحصون، وينزل بعضها من يقومون بالخفارة. وهو ما يحقق الشطر الأول فى العنوان «المسالك». ومن هنا يمكن فهم عنوانه الكامل «المسالك والممالك».
وتتمثل أهم المعالم الجغرافية التى جاءت فى كتاب المسالك والممالك هى:
• موارد المياه فى مختلف صورها من آبار وعيون وبرك.
• ما يتجمع من ماء الأمطار والسيول فى الأحواض.
• السكان والأجناس والأعراق.
• نمط السكن والمساكن والقرى.
• ما تحويه القرى من زرع وضرع.
• الحاصلات والتجارة والصناعة.
ويذهب المستشرق الروسى إغناطيوس كراتشكوفسكى إلى أن الكتاب الذى ألفه «نصير الدين الطوسى» فى الجغرافيا باللغة الفارسية ــ والذى جاء بعد 200 سنة من زمن الإصطخرى ــ إنما يحوم الشك حول صحة نسبته إلى الطوسى وأن أصله قد يكون ترجمة فارسية لكتاب الإصطخرى «المسالك والممالك».
كما يذهب كراتشكوفسكى إلى أن المعلومات المهمة للغاية التى حصل عليها المؤرخون عن بلاد الخزر (فى جنوب روسيا حاليا) والتى كان يعتقد أنها من رحلة أحمد بن فضلان (922 م) إنما هى على الأرجح من كتاب الإصطخرى «المسالك والممالك».